نشأت
مثل غالبية جيلي من أبناء الثمانينات على أغاني عمرو دياب وهاني شاكر ومحمد منير ووليد
توفيق وعشرات غيرهم من المطربين والمطربات المصريين والعرب على حدٍ سواء!.
حيث
الأغنية هى أبرز ملامح الثقافة الغالبة والمفروضة عنوة على العالم كله وليس بلادنا
العربية فقط. وأقول عُنوة لأنك تسمعها رغم أنفك في كل مكان وزمان في وسائل الإعلام
المختلفة مثل الراديو والتلفزيون وفي وسائل المواصلات وعند زيارة الأهل والأصدقاء وفي
المطاعم والمحلات فضلا عن كل المناسبات والأعياد!.
ومع
جنوحي مبكرًا نحو القراءة وخاصة الكتابات الأدبية مالت نفسي إلى تذوق الكلمات قبل الصوت
واللحن، فانصرفت إلى سماع الأغاني القديمة وفي الصدر منها القصائد التي غنتها أم كلثوم
مثل الأطلال وثورة الشك وأراك عصي الدمع وغيرها!.
ومع
دخولنا عصر "الكومبيوتر" في أواخر التسعينات كان من السهل الحصول على الأغاني
القديمة والنادرة بيسر وسهولة دون عناء مادي أو معنوي!.
ومن
ثمّ أهداني صديقي الذي يكبرني بعشر سنين والذي عرفتُ فيه الرَاحِلَة المنشودة في حديث
رسول اللهﷺ:
«إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَة، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً»، ملفًا
يحوي أناشيد وأغاني غير منتشرة أو متداولة في وسائل الإعلام الرسمية للاستماع إليها.
وهى
الأناشيد التي كانت بمثابة بوابة عبرت خلالها إلى عالمٍ آخر طيب الرائحة من عطر دماء
الشهداء، فسيح الأرجاء باتساع نفوس أصحابه الشامخة، عظيم الإيمان من نبل كلماته وفداء
أبطاله..
فاستمعت
مأخوذا بكل هذا الجمال إلى كلمات كتبها عمالقة كبار مثل يوسف العظم، وعبد الحكيم عابدين،
ويوسف القرضاوي، ومصطفي صادق الرافعي، وهاشم الرفاعي، وسيد قطب ومحمد إقبال وإبراهيم
عزت..
وقد
حفظت مطلع بعضها كما كنت أحفظ مطالع قصائد أم كلثوم عن الهوى والغرام. ولكن مع الفارق
بين كلمات تحيي النفس وتنير القلب وتزهو بالعقل وتشعل الحماسة وبين ما يشعل الغرائز
ويسكر العقل ويخدر القلب أو بالأحرى يُميته!.
ومن تلك المطالع:
مَلكنا
هذهِ الدنيا قُروناً
وأخضَعَها
جدودٌ خالدونا
وسطَّرنا
صحائفَ من ضياء
فما
نسيَ الزمانُ ولا نسينا..
من
أشعار هاشم الرفاعي..
ومنها أيضا:
أخي
أنت حرٌ وراء السدود
أخي
أنت حرٌ بتلك القيود
إذا
كنت بالله مستعصما
فماذا
يضيرك كيد العبيد
للمفكر
الشهيد سيّد قطب..
وكذلك
مطلع قصيدة عن معركة القادسية للأستاذ يوسف العظم، يقول فيها:
زلزل
يا سعد الإيوانَ
واحمل
للناس القرآنَ
وانصر
باللّه كتائبنا
وانشر
في الكون الإيمانَ
وغيرها
الكثير مما لا يتسع المجال لذكره ..
وقد
كان الفضل الأول في الإطلاع على هذا العَالَم الرحب الزكي الطاهر هو المهندس السوري
رضوان عنان أو المُنشد أبو مازن صاحب الصوت الصادق النديّ المشحون بالعاطفة والشجن
الذي يبعث اليقظة ويعلي الهمة وينمي العزيمة ويحيي الاعتزاز بمجد الأمة الذي أريد له
أن يُدفن في عقول وقلوب أبنائها..
والذي
توفاه الله اليوم في مصر التي ارتحل إليها في العام ١٩٨٧م هربًا من جحيم الطاغية حافظ
الأسد في بلده سوريا التي ولد فيها سنة ١٩٥٢م..
وقد
قام بإمكانيات ضعيفة ومجهودات فردية بتسجيل جُلّ هذه الأناشيد على شرائط كاسيت وهو
دون العشرين من عمره..
فلما
بدأت الصحوة الإسلامية مع نهاية السبعينات كانت تلك الشرائط هى الشعار الروحي لها والانبعاث
الحركي الذي يتداوله أبناؤها جنبا إلى جنب مع خطب ودروس وكتب ومقالات الأساتذة الأجلاء
والعلماء المؤثرين من أمثال: الغزالي والقرضاوي والمودودي ومشتهري والندوي وكشك وأنور
الجندي وإبراهيم عزت وغيرهم..
والطريف
في الأمر أن أبا مازن لم يكن يعلم الكثير عن هؤلاء الذين يُنشد لهم بل إنه لم يعلم
عن الشيخ الرباني والداعية الجليل إبراهيم عزت شيئا إلا بعد وفاته!.
فقد
كان المهندس رضوان يعيش منعزلًا بعيدًا عن الأضواء رغم شهرته الواسعة في ثمانينات القرن
الماضي إلا أن أحدا لم يكن يعرف صورته على الحقيقة..
وقد
ذهب إليه الدكتور الباحث التربوي "أكرم رضا"، لإدارة حوار حول الشيخ
"إبراهيم عزت" فلم يجد عند "أبي مازن" ما يضيفه غير تلك الدمعات
التي رَآهَا تترقرق في عينيه وهو يذكر الخاتمة العظيمة للشيخ إبراهيم عزت عندما ذهب
لقضاء العمرة في العشر الأواخر من رمضان ومات ودفن في مكة المكرمة في ٢١ رمضان
١٤٠٤هـ، بعد أن صلى عليه آلاف المسلمين في الحرم الشريف وكان له من العمر ٤٣ عاماً
فقط!..
ولقد
كان الشيخ "إبراهيم عزت" هو صاحب الأثر الأكبر على المنشد العظيم أبي مازن،
وقد أنشد له العديد من القصائد مثل "ملحمة الدعوة" و"الله أكبر"
و"مصعب بن عمير" وغيرها..
وهذا
يقودنا إلى أحد أجمل ما سمعت في حياتي، وهي
قصيدة "صغيرتي" من روائع الشيخ إبراهيم عزت يخاطب فيها أخته الصغيرة مُنى، في رمزية واضحة،
يؤكد بها أن جرأة الجبناء على الحق وأصحابه، إنما تأتت لكون الحقّ أعزلًا مكبلًا بالأغلال.
وإن
الدموع النبيلة لا تنم عن عجز، وإنما هي آهات القهر والتألم في سبيل نشر الخير والنقاء..
ولن يجفف هذه الدموع إلا إشراقة الخير، وانتصار الحق تارة اخرى.
وهى
القصيدة التي تضمنها الشريط العاشر والأخير لأبي مازن والذي أنشده سنة ٢٠٠٤م، بعد انقطاع
دام ربع قرن من البعد عن الإنشاد والأضواء!..
صغيرتي
لا
تعجبي صغيرتي
هي
دمعتي
لغتي
التي تجتاح عجزي
يا
طفلتي إني بشر
أبكي..
كما
حين تضيع لعبتك الصغيرة
أو
حين تحتاجين صدراً دافئاً
وحليب
أمك
قد
ضاع بين يدي عمر من تمني
والكوكب
الدري آل إلى انطفاء
وهنٌ
وهمٌ لا يداريه التجلد !.
والنفس
حين تتوه في دنيا الخواء
ليست
تلوذ سوى بأنات البكاء
أنا
يا صغيرةُ
مثلما
الأشجار تسعى للضياء
لكنه
ليل كما الطوفان هاج
فأغرق
الدنيا وأغرق مهجتي لولا قليلٌ من رجاء ..
لا
تعجبي صغيرتي إذا رأيتي دمعتي
فلست
فارساً تعود الخطر
ولست
مالكاً ذراع ماردٍ تفتت الحجر
ولست
عالماً بالغيب كي أدافع الشرور بالحذر
أنا
يا صغيرتي بشر ...
أنا
يا صغيرتي بشر
ودمعتي
قريبة من الأسى
يذيبني
الألم
يصيبني
الجنون حيث يُصنع العدم
تشل
نظرتي إذا رمتها نظرة الخداع بالنِقم
يصيُبُني
الضنا والعجز والسأم ...
أنا
يا صغيرتي بشر ..
لا
تغضبي صغيرتي
فالنظرة
التي رأيتها مضيئة تصافح الحياة
واللفظة
التي سمعتها رنانةَ الصدى تحرك الصدور والشفاه
والبسمة
التي أهديتُها إليكِ
كي
تصافحي ملامح الإنسان حيث كان
كل
الذي رأيتِه ما كنت فيه كاذباً صغيرتي ولم أكن
لكن
ما رأيته هو الشذى
يفوح
من حديقة الزهور في مواسم الربيع
هو
الحياة في ظلال راية بيضاء نسيجها الضياء
وطائر
الأمان حولها يرتل الغناء
وخضرة
الزيتون شارة على الصدور
تزرع
الطريق بالنماء
كي
تفهمي صغيرتي ..
هل
تذكرين حديقة التمساح والأسد ؟!.
تلك
التي بها ركبت ذلك الجمل
يمضي
بنشوتك الحبيبة ناعماً
وهو
السعيد بما حمل..
هل
تذكرين صاحب العرين؟!.
ذاك
الذي تزيد عنده الخطى
ذاك
الذي لا تجسر الوحوش ان تنال ساحته
قد
نلتهِ صغيرتي ...
فقذفتي
من يديك ما أصابَ هامته ..
العيب
يا صغيرتي في قسوة الأغلال
لا
عيب في الرجال ....
العيب
في من يعشق انحناءة الرجال..
لا
تحزني صغيرتي إذا رأيتي دمعتي
فتلك
قطرة من الندى
تجف
في الصباح إن بدا
ستملأ
العيون فرحة مزغردة
تقول
للأسى ونحن نقطع الطريق للعلا
سننتصر
على
الشفاه ذكرها
يزف
بسمة القدر
الكف
لم تزل بخيرها قوية ..
غنية
...
وقيدها
سينكسر..
ونحن
في مواقع الخلود ننتظر
فلتحكمو
السفن .. لأن بحرنا عميق
واستكثروا
من زادنا الأصيل
لم
تزل بعيدةً نهاية الطريق
لكن
نبعنا الرطيب مغدق
ولم
يزل يبلل الظمأ
ويطفئ
الحريق ...
ولم
تزل عيوننا نفاذة البريق
تضيء
للجموع كي تسير
من
بعد أن تعلمت من ليلها الكثير...
بقلم/ أحمد الشريف
١٥
مارس ٢٠٢٣م/ ٢٣ شعبان ١٤٤٤هـ.