عمر المختار.. القائد العربي الليبي الذي كان أسطورة زمانه
·
شهد له الجميع في شبابه بالنباهة ورجاحة العقل وحسن الخلق.. كما عُرف
بالجدية والحزم والاستقامة والصبر
·
صارع بمفرده أسدا هاجم القافلة حتى قتله وسلخ جلده
وعلَّقه لكي تراه القوافل الأخرى المارة عبر الصحراء
·
أغراه الإيطاليون بترك القتال والعيش في مصر فقال: "والله لا أغادر
هذا الوطن حتى ألاقي وجه ربي شهيدا"
·
كان أمثولة للشجاعة وعزة والكرامة في حياته وموته.. ليس بين بني وطنه
فحسب بل في أوروبا وأمريكا
·
القائد الإيطالي "غراتسياني": المختار نجا آلاف المرات من الموت
والأسر.. وكان يقاتلنا بصبر ومهارة لا مثيل لهما
المجاهد العربي الليبي الشهيد عمر المختار أو "أسد
الصحراء"، واحد من كبار المجاهدين في زمانه، إنه الرجل الذي اختار القتال ضد
الغزاة الإيطاليين لبلاده، حتى نال الشهادة التي كان يتمناها بعد أكثر من 20 عاما
من الجهاد.
وكان المختار، في حياته وموته معا، أمثولة للشجاعة وعزة
والكرامة، ليس بين بني وطنه فحسب، بل في أوروبا وأمريكا، حيث عرفه أهل عصره
بـ"أسطورة الزمان"، وهز خبر إعدامه بعد وقوعه أسيرا في أيدي الإيطاليين العالم
أجمع، وقتها.
وُلد عمر بن مختار المنفي الهلالي، الذي اشتهر فيما
بعد باسم عمر المختار، في منطقة برقة بـ"الجبل الأخضر" في ليبيا عام
1862، وتوفي والده وهو في طريقه إلى مدينة مكة المكرمة بالأراضي المقدسة لأداء فريضة
الحج، فتولى عمه تربيته هو وشقيقه الأصغر "محمد"، فأدخلهما العم مدرسة لحفظ
القرآن الكريم، ثم أُلحق "عمر" بمعهد متوسط كان يسمى "المعهد الجغبوبي"،
نسبة إلى منطقة "جغبوب"، حيث أظهر ذكاء واضحا جذب انتباه شيوخه في المعهد،
الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء والفقهاء والأدباء آنذاك.
ودرس عمر المختار في المعهد الجغبوبي لمدة 8 أعوام، نهل
خلالها من معين العلوم الشرعية والأدبية المتنوعة مثل الفقه والحديث والتفسير
والشعر العربي، وشهد له الجميع، شيوخا وطلاب، بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق،
وحب الدعوة، كما عُرف بالجدية والحزم والاستقامة والصبر. (1)
وكان المختار، كما وصفه معاصروه، متوسط القامة يميل إلى
الطول قليلا، ولم يكن بالبدين الممتلئ أو النحيف الفارغ، أجش الصوت بدوي اللهجة، رصين
المنطق، صريح العبارة، لا يُمل حديثه، متزن في كلامه، كثيف اللحية، تبدو عليه صفات
الوقار والجدية في العمل، والتعقل في الكلام والثبات عند المبدأ. (2)
مصارع الأسود
خلال السنوات التي قضاها "عمر" في المعهد،
تمكَّن من اكتساب سمعة حسنة عند شيوخ "الحركة السنوسية" التي كانت تضم
قادة ومشايخ البلاد آنذاك، فاصطحبه الشيخ محمد المهدي السنوسي، ثاني زعماء الحركة،
في رحلة إلى واحات جنوب شرق الصحراء الليبية، ثم اصطحبه "السنوسي" في رحلة
أخرى إلى منطقة قرو في غرب السودان.
ويُروى أنه في الطريق إلى السودان، وبينما كانت القافلة
تعبر الصحراء، أخبر أحد الأدلاء "السنوسي" بوجود أسد مفترس في الجوار، واقترح
الدليل تقديم إحدى الإبل كفدية لاتقاء شره، إلا أن المختار رفض ذلك قائلا: "إن
الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف قد أبطلت، فكيف يصحّ أن نعيدها إلى
حيوان؟ إنها علامة ذل وهوان، والله إن خرج علينا لندفعه بسلاحنا حتى الموت". ثم
خرج الأسد بالفعل من مكمنه لمهاجمة القافلة، فصارعه المختار بمفرده حتى قتله، وسلخ
جلده وعلَّقه لكي تراه القوافل الأخرى المارة عبر الصحراء.
ومكث المختار في السودان أعواما طويلة نائباً عن الزعيم
الروحي الليبي المهدي السنوسي، الذي عينه نائبا عنه في احدى الولايات السودانية، حتى
بلغ من إعجاب السنوسي به أن قال: "لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا
بهم عمن سواهم". (3)
وعيَّنه السنوسي بعد عودته إلى ليبيا عام 1897 شيخاً
لمدينة "زاوية القصور" شمال شرق برقة، وأحسن المختار الأداء في هذا المنصب،
رغم أن البلدة التي كُلِف بإدارتها كانت تقطنها قبيلة اشتهرت بشدة البأس وصعوبة الانقياد،
غير أنه استطاع كسب ودهم، وقد أدَّت علاقته الوثيقة بالسنوسيين إلى اكتسابه لقب "سيدي
عمر" الذي لم يكن يحظى به إلا كبار شيوخ السنوسية فقط.
وظل المختار في هذا المنصب حتى عام 1911، وقاتل خلال
هذه الفترة الجيوش البريطانية على الحدود المصرية- الليبية، في مناطق "البردية والسلوم
ومساعد".
وفي
عام 1911 أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية، التي كانت الحاكم الإسمي
للدول العربية آنذاك، وبدأت إنزال قوَّاتها بمدينة بنغازي الساحلية شمال برقة. وفي
تلك الأثناء كان المختار في مدينة الكفرة بقلب الصَّحراء في زيارة إلى السنوسيين، وعندما
كان عائداً من هناك مرَّ بطريقه بواحة "جالو"، وعلم بخبر نزول الإيطاليين،
فعاد مسرعاً إلى "زاوية القصور" لتجنيد أهلها لمقاومة الإيطاليين، ونجح في
جمع نحو 1000 مقاتل، وأسس معسكراً تدريبيا لهم في منطقة "الخروبة"، ثم انتقل
منها بعد إتمام التدريبات إلى "الرجمة" حيث التحق بالجيش العثماني،
وانضم له الكثير من المقاتلين الآخرين، وأصبح المعسكر قاعدةً لهم يخرجون منها ويغيرون
على القوات الإيطالية الغازية.
ومما يُحكى عن شجاعته، أنه أثناء معركة "السلاوي"
التي وقعت عام 1911، نزل المقاتلون الليبيون بينما كانوا يحاربون الإيطاليين إلى حقل
زراعي للتخفّي فيه، وما إن وصلوه حتى بدأ الجنود الإيطاليون إطلاق الرصاص بكثافة في
اتّجاه الحقل لقتلهم، وبينما هم على هذه الحال وجدوا حفرة في الحقل، فأشاروا على المختار
بدخولها ليحتمي من الرصاص، إلا أنه رفض بشدة، فدفعوه رغما عنه وأدخلوه إليها، وظل طوال
المعركة يحاول الخروج منها وهم يمنعونه بالقوة.(4)
وشهدت تلك الفترة أعنف مراحل الصّراع ضد الإيطاليين،
وتركزت هجمات المختار ورجاله فيها على منطقة "درنة"، واندلعت يوم 16 مايو
عام 1913 معركة ضارية بين الطرفين دامت لمدّة يومين، وانتهت بمقتل 70 جنديا إيطاليا
وإصابة نحو 400 آخرين، وإثر تلك المعركة اكتسب المجاهد العربي لقب "أسد
الصحراء" الذي أطلقته عليه الصحف العربية الصادرة آنذاك، نظرا لشجاعته
الخارقة في القتال بمجموعة من المقاتلين المتطوعين ضد الجيش الإيطالي المدجج
بالسلاح والعتاد.
حرب العصابات
اتَّبع أسلوب "حرب العصابات" ضد
الإيطاليين، فكان يصطحب معه 100 إلى 300 رجل في كل غارةٍ ويهجم عليهم بغتة ثم ينسحب
بسرعة، ولم يزد أبداً مجموع رجاله عن نحو 1000 رجل، مسلحين ببنادق خفيفة، وقد شكَّل
هذا بداية حرب ضروس بين الجانبين استمرت 22 عامًا، اكتسب خلالها الرجل خبرة كبيرة في
أساليب وتكتيكات الحروب الصحراوية، فقد كانت له معرفة سابقة بجغرافيَّة الصحراء ودروبها
ومسالكها وكل ما يتعلَّق بها، فاستغل هذه المعرفة ليحصل على الأفضليَّة دومًا عند مجابهته
الجنود الإيطاليون غير العارفين بحروب الصحراء وغير المعتادين على قيظها وجفافها.
وشهدت الفترة الممتدة بين عامي 1924 و1925 مناوشات عديدة
ومعارك دامية بين الثوار والقوات الإيطالية، ووسع المجاهدون نشاطهم العسكري في الجبل
الأخضر، ولمع اسم عمر المختار كقائدٍ بارع يُتقن أساليب الكر والفر ويتمتع بنفوذ عظيم
بين القبائل، فأخذ البدو ينضمّون إلى صفوف المجاهدين، وبادرت القبائل بإمداد هؤلاء
بما يحتاجون من مؤن وعتاد وأسلحة.
وكان المجاهد الشهيد يعتقد اعتقاداً راسخاً أن ما كان
يقوم به من الجهاد إنما هو فرض يؤديه وواجب ديني لا مناص منه ولا محيد عنه، لذلك أخلص
في عمله وسكناته وأحواله وأقواله لقضية الجهاد، ويقال إنه كان يكثر من الدعاء لله تعالى
بأن يجعل موته في سبيل هذه القضية، فكان يقول: "اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية
المباركة"، وأصر على البقاء في وطنه رغم الإغراءات التي بذلها له الإيطاليون
عبر وسطاء، بالرحيل إلى مصر للعيش بجوار شيخه السنوسي، الذي اضطُر للهجرة إلى مصر في
عام 1923، فقال: "والله لا أغادر هذا الوطن حتى ألاقي وجه ربي، والشهادة أقرب
إلى من كل شيء فإني أترقبها لحظة بعد لحظة".
استشهاد "أسطورة الزمان"
في 28 مارس 1927، اشتبك المجاهدون مع القوات الإيطاليَة
في معركة ضارية عُرفت باسم "معركة يوم الرحيبة"، وتكبّد فيها الطليان خسائر
جسيمة. وكانت تلك الهزيمة بمثابة القشَّة التي قصمت ظهر البعير، فلم تعد الحكومة الإيطالية
في روما قادرة على تقبَّل أي هزيمة بعد أن ظهر جيشها بمظهر هزلي أمام باقي جيوش أوروبا،
كذلك كان الحكَّام الإيطاليّون في ليبيا قد طفح بهم الكيل من الهزائم المُتكررة، وكان
لا بدّ لهم من إعادة اعتبارهم ورفع معنويَّات الجنود المنهارة، فشرعوا يعدون الجيوش
الجرّارة لاحتلال "الجبل الأخضر" واتخاذه قاعدة لهم. (5)
واشتبك الإيطاليون في أكتوبر 1930 مع المجاهدين،
الذين كانوا يتلقون المساعدات والعتاد من مصر، في معركة كبيرة، عثر الغزاة عقب انتهائها
على نظّارات المختار، كما عثروا على جواده نافقا في ميدان المعركة؛ فأصدر القائد العسكري
الإيطالي "غراتسياني" منشورًا ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضي على
"أسطورة المختار الذي لا يقهر" وقال متوعدًا: "لقد أخذنا اليوم نظارات
المختار، وغدًا نأتي برأسه".
وتوجه المختار في 11 سبتمبر من العام التالي 1931 بصحبة
عدد قليل من رفاقه، لزيارة مدينة "البيضاء"، وشاهدتهم وحدة استطلاع إيطالية،
فتحركت عدة كتائب للإمساك بالصيد الثمين، وإثر اشتباك في أحد الوديان، وقع المختار
في الأسر وكُبِّل بالسلاسل من قدميه دون مراعاة لسنّه، حيث كان يبلغ من العمر
وقتها نحو 69 عاما، وانتشر الخبر في كل أنحاء العالم العربي وأوروبا، ونُقل الرجل إلى
مبنى بلدية سوسة، ومن هناك على ظهر طرَّاد بحري إلى سجن بنغازي مُكبلا بالسلاسل
وقال "غراتسياني" في مذكراته إن "هذا
الرجل أسطورة الزمان، فقد نجا آلاف المرات من الموت ومن الأسر واشتهر عند الجنود بالاحترام،
باعتباره الرأس المُفكر والقلب النابض للثورة العربية في برقة، كما كان يقاتل بصبر
ومهارة لا مثيل لهما". (6)
وجرت محاكمة المختار في 15 سبتمبر 1931 محاكمة صورية،
إذ كان الإيطاليون قد أعدوا المشنقة وانتهوا من ترتيبات الإعدام قبل بدء المحاكمة وصدور
الحكم. وحاول المحامي المُكلف بالدفاع عن المختار، وكان ضابطًا إيطاليًّا من رتبة نقيب
يُدعى روبرتو لونتانو، أن يُبقي على حياة الرجل، فطالب بالحكم عليه بالسجن المؤبد نظرًا
لشيخوخته، غير أن المدعي حكم على المختار بالإعدام، فاكتفى الشهيد بالقول: "إنَّ
الحكم إلا لله.. لا لحكمكم المزيف.. إنَّا لله وإنا إليه راجعون".
واستجاب الله دعاء الشيخ الجليل وجعل موته في سبيل عقيدته
ودينه ووطنه، غير أنه صار أسطورة زمانه، وخلدته على مر التاريخ مآثره وأعماله
البطولية. كما ظهر عن جهاده فيلم سينمائي شهير بعنوان "أسد الصحراء" أُنتج
عام 1981 من بطولة الممثل العالمي أنتوني كوين وإخراج المخرج السوري الراحل مصطفى العقاد،
بلغت ميزانيته حوالي 35 مليون دولار أمريكي، وحقق نجاحا جماهيريا كبيرا، ومازال
يُعرض على الفضائيات العربية حتى الآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
موقع
"ويكيبيديا"
(2)
د.
محمد علي الصلابي- "الشيخ الجليل عمر المختار.. نشأته وأعماله
واستشهاده". الناشر "المكتبة العصرية"، لبنان- الطبعة الثانية
2006.
(3)
موقع
"المعرفة"
(4)
"ويكيبيديا"- مصدر سابق
(5)
موقع
"المرسال"
(6)
د.
الصلابي ""الشيخ الجليل.."