مجتمع بوست | القاهرة بالفرشاة الأوربية.. كتاب فريد للفنان عرفة عبده علي
إذا كان في الإمكان " تثبيت اللحظة التاريخية " لتعيشها الأجيال
القادمة, فإن هذا هو ما يفعله الناقد والفنان عرفة عبده علي في كتابه الفريد
" القاهرة بالفرشاة الأوروبية صور ومشاهد من الحياة الاجتماعية" الذي
يجمع بعضاً من لوحات الفنانين التشكيلين الأوربيين ,تُصور الحياة اليومية بكافة
مظاهرها وتجلياتها في القاهرة إبان القرن التاسع عشر, عندما كان للشرق غموضه
الساحر في عيون الغربيين , الذين كانوا يعتقدون أن المصريين- والشرقيين عامة- في
واقع أسطوري يشبه ألف ليلة وليلة!
والتر تيندال.. مشهد من الجمالية |
ويتضمن الكتاب روائع فنية لم يسبق نشرها, ولوحات تمثل " الاستشراق
الفني " بمعناه الواسع, عندما كان الاوروبيون يتلمسون خطاهم للتعرف على حياة
الشرق, بما فيها من شوارع و أسواق ومساجد, وبما يحكمها من عادات وتقاليد غريبة على
هؤلاء الفنانين ,إلي حد أن أحدهم رسم لوحة لمنظر رآه في الشارع عن قيام شخص بكشف
حجاب خطيبته, باعتبار ذلك حدثاً جللاً يستحق التسجيل بالخطوط والألوان!
يقول الفنان عرفه عبده: شكلت القاهرة زاوية الدفء والحلم الجميل فى ذاكرة
الكثيرين، فكانت رحلة واحدة "كافية للبعض منهم" ليختزن تصورات ثرية عن
"قاهرة الشرق" ذات الطبيعة الساحرة وفنون العمارة المبتكرة وصخب الحياة
وتنوع الألوان، وكنوز الماضي التي شكلت طوقاً بديعاً من الحضارات التى تألقت على
صدر التاريخ.
فريد ريك لويس .. كاتب الرسائل |
كانت القاهرة فى القرن التاسع عشر، فردوساً لفناني اوربا، الذين خلفوا لنا
ثروة من إبداعاتهم الفنية الخالدة، تبعث قاهرة الشرق حية فى خيالنا، بالرغم من
موجة التحديث التى نالت من طابعها المميز فى ذلك العصر، إلا أنها ظلت قادرة –بسحرها
الخاص- على أن تخلب ألباب هؤلاء الفنانين، فتباروا فى تسجيل مشاهداتهم لواقع
القاهرة، آثارها وأسواقها, وشوارعها, صخب الحياة الشعبية المغلف بتداعيات العالم السحري
الغامض لقصص ألف ليلة وليلة!
من هؤلاء الرحالة الفنانين: جون فرد ريك، دافيدروبرتس، هنرى والسن، كارل
مولر، جون فارلى، لوفيج دويتش، ماريلا، جيروم، ماكوفسكى، والترتيندال.
فرانك ديلون .. قاعة حريم الشيخ السادات |
نبدأ بالفنان "جون فردريك لويس" أبرع وأشهر المستشرقين البريطانيين،
عاش بالقاهرة من عام 1842 إلى عام 1851، بدأ لويس حياته رساماً بالألوان المائية فحقق
نجاحاً باهراً فى صالون "جمعية الألوان المائية" فى عام 1850 بلوحته
الشهيرة "الحريم" ،وقد تميزت لوحات لويس بالدقة المتناهية، وثراء ووضوح
التفاصيل والتجديد واختيار موضوعاته بعيداً عن "الكليشيهات" التقليدية
عن الشرق.. فقد كان ينظر بعين واقعية إلي كل ما يحيط به من مشاهد لحياة القاهرة ,
مبتكراً " لوحات هادئة " مستلهمة من صميم الحياة اليومية وهو يبدع
مشهداً شرقياً , مثل كاتب الرسائل في السوق.
بالإضافة إلي ذلك, عندما كان يرسم المنازل وقصور الشرق الفاخرة , فقد كان
يهدف بالأساس إلي التعرف بثقافة عريقة , كانت في مفهوم الغرب – حتي ذلك الحين- عن
الشرق أنه صاحب ثقافة بربرية !
فابيو فابي بائع المفروشات |
إنجليزي بعمامة !
أما الفنان ( دافيد روبرتس ) فقد أبدع ستة ألبومات رائعة للآثار الإسلامية
في كل ربوع الشرق, وقد سُمح له بالرسم داخل المساجد, بعد التأكد من أن فُرشاة
الرسم الخاصة به ليست من شعر الخنزير!.
وفي عام 1838, أبحر روبرتس في النيل حتي إثيوبيا ثم عاد للتجول بصحراء
سيناء وفلسطين , وبعلبك, وهو يتحلى بزي عربي.. فالفنانون الإنجليز لم يستطيعوا
مقاومة إغراء العودة إلي الحياة الفطرية ..فهجروا الأناقة من أجل العمامة!
ولوحات روبرتس التي ضمنها كتابه( الأراضي المقدسة ومصر والنوبة )حققت له
شهرة واسعة, جعلت منه ألمع الفنانين الاوربيين الذين زاروا الشرق, وقد سرد
انطباعاته ونشاطه الفني في يوميات رحلته في مصر , وفيها يصف القاهرة , بأنها مدينة
لا تماثلها مدينة أخرى , بمناظر شوارعها وأسواقها العامرة وتنوع طُرزها
المعمارية..
يقول الفنان عرفة عبده: لا جدال في أن روبرتس هو أعظم الفنانين المستشرقين,
فقد فاق الجميع عبقرية وأسلوباً وإنتاجاً,وقد وضع روبرتس الفنان الرحالة ,منهاجاً
جديداً يعتمد على البلاد الإسلامية المعاصرة, من زاوية الفن القديم " متاحف
أثرية " - تقدم على الطبيعة - تقاليد وعادات وأزياء متوارثة من الأزمنة
القديمة وكان في ترحاله , يهتم كثيراً بتفاصيل الحياة اليومية للشرق وبحكم عمله
كرسام , لعالم المصريات الفلورنسي" ايبوليتو روسيلليني "فقد أنجز روبرتس
ألف وأربعمائة لوحة, خلال ركوبهم النيل , صاعدين إلي النوبة, صور فيها كثيراً من
شواهد حضارة مصر , وقام بحفر أربعمائة عمل من إبداعاته , ضمها كتاب"
روسيلليني عن" آثار مصر والنوبة.
جيوسي انجيليلي .. اللوحة الشهيرة لأعضاء البعثة الفرنسية التوس |
ولوحة روبرتس الشهيرة النادرة, التي تمثل مجموعة الرحلة " البعثة
الفرنسية التوسكانية الأدبية" بين أطلال طيبة وتشغل حالياً الدرج الكبير
لمتحف الآثار بفلورنسا , وتجمع بين الكلاسيكية الجديدة والمذهب الطبيعي وتعكس
رغبته في تخليد هذه الرحلة , والمشاركين فيها ومهمتهم العلمية .
يتوسط هذه اللوحة عالم المصريات" شامبليون " قائداً للمجموعة,
ومن خلفه, روسيلليني وأخيه المهندس المعماري "جيتانو" وشيخ مصري ظهره
نحو المشاهد, بينما الرسام الفرنسي ديشيزن مسترخياً في أقصى اليسار, بجانبه لوحة
صغيرة وصندوق الألوان المائية أما أفراد البعثة الثمانية الآخرون فهم:
لورو, بيرتان, الطبيب ريتشى ,سلفادوري شيريبينى, نيستور لاهرت , جيوسيبي
داوى ,وانجبليللي, وفي وسط المقدمة بعض الكنوز الأثرية التي عُثر عليها خلال
عمليات التنقيب التي قامت بها البعثة.
وألهمت القاهرة الإسلامية وطقوس الحياة الشعبية فيها أبرع الفنانين
المستشرقين الرسام النمساوي "
ليوبولد كارل مولر "الذي أقام بمصر عدة سنوات ,وكانت أشهر لوحاته" السوق
علي أبواب القاهرة " التي تميزت بالدقة وثراء التفاصيل وروعة الألوان جعلها
تلقى كثيراً من الشهرة الواسعة والإقبال , خاصة في انجلترا.
وتمكن مولر من اجتذاب اثنين من أشهر الرسامين النمساويين " لينباخ
" و " هانز ماكارت " وبالفعل زار ما كارت مصر عام 1872, مع مجموعة
من الأمراء, وكان شديد الاعتداد بعبقريته , باعتبار أنها تضارع عبقرية روبنز
النمساوي ,وتميزت لوحاته بالفخامة , أشهرها لوحته الخالدة " كليوباترا "
.
فريد ريك جودول.. الحاوي |
الاستشراق الرومانسي
أما الفنان الفرنسي بروسبير ماريلا فقد اصطحبه عالم النباتات الألماني
" فون هيجل " إلي الشرق عام 1831 لمدة عامين فتحقق حلمه بزيارة مصر
وسوريا ولبنان وفلسطين , وأبدع في تصوير أنماط الحياة الشرقية , وبلغ ذروة فكره
الجمالي في لوحة " مشهد من ميدان في القاهرة" وابرز فيها شاعرية حياة
المدينة وواقعها اليومي.
توغل ماريلا في روح مصر , وفي مملكة الضوء واللون حتي اشتهر باسم ( ماريلا
المصري ), ومشاعره الذاتية أضفت على الفن الاستشراقي مسحة رومانسية جذابة ومؤثرة ,
وشكلت أشجار النخيل الباسقة والظلال الوارفة ومياه النيل المتألقة والرمال الذهبية
ومآذن المساجد ووجوه البشر و الأزياء الشرقية والإبل وألوان السماء مادة أحلامه
المنشودة وحياته المثالية.
ومن أشهر لوحات ماريلا التي اكتسبت سحراً خاصاً وشاعرية دافقة لوحات "
ساحة الازبكية في القاهرة " و" منظر من بولاق " و " أطلال
مسجد الحاكم " و" على ضفاف النيل " و" مسجد باب الوزير" و"
مقهى في بولاق " و" منظر مصري".
وكذلك استقبلت القاهرة الفنان أيضاً" ليون اوجست بيلي " تلميذ
ماريلا في عام1850, وأشهر لوحاته " الحجيج في طريقهم إلي مكة " التي
حظيت بنجاح هائل في صالون باريس عام1861.
ومع نهاية القرن التاسع عشر, كان "والتر فردريك تيندال" واحداً
من أشهر الفنانين المستشرقين الذين تخصصوا في الموضوعات المصرية , وقد تمتعت إبداعاته
عن القاهرة الإسلامية بشهرة فائقة , بما بلغته من دقة التصوير وسحر آسر وجاذبية
متفردة, وقد ألهمته القاهرة بحياتها اليومية الحافلة بمشاهد بسطاء الناس , والحركة
الصاخبة في الشوارع والطرقات والأسواق وإبراز عظمة العمارة الإسلامية فأجاد ما
يمكن أن نسميه عملية "توثيق فني" للقاهرة ووادي النيل بصفة عامة في ذلك
العصر وكان لتيندال أسلوبه الفني المتميز , والواضح, يمزج بين الأضواء والظلال في
براعة, وحاسة عجيبة في اختيار الألوان , فيبدو جلياً من دقة اختياراته أنه لا يريد
اختبار حقيقة مشاعرنا, ولكنها طبيعته المتفردة.
حادث كشف الحجاب
"وفجأة أدركت كيفية الإفلات من زيف الحياة الحضارية المصطنعة ..
فالطبيعة هنا تهب نفسها بجمالها البكر, البسيط.. والحياة تبدو وكأنه تخلق من جديد
".
كتب "وليم هولمان هنت" هذه الانطباعات بمجرد أن وطأت قدماه أرض
مصر وهو أحد رواد مذهب (ما قبل الرافائيلية ) الذي اعتنقه بعض الفنانين الانجليز
بهدف تجديد الفن البريطاني بتقليد الفنانين السابقين علي الفنان الايطالي المعروف
رافائيل.
ويضيف " هنت " قائلاً" " : لم أكن أطمح لتصوير مصر
الحديثة , ما شاهدته ودرسته فيها, لم يكن إلا لتنقية ما تعلمناه من التاريخ القديم
.. فجميع العادات الموروثة, من جيل إلي جيل, والأزياء .. والذوق الإنساني.. كلها
مهددة بالانقراض..ربما فات الأوان على مقدرة أحد الأجيال , علي إعادة تشكيل الماضي..
الذي قد نلمس بعض مظاهره في حياة الريف والصحراء..
وتمثل لوحته ( كشف الحجاب) حدثاً كان هو شاهد عيان عليه بأحد شوارع القاهرة..
فكتب في مذكراته: لقد حاول أحد الحرفيين كشف وجه خطيبته المحجبة في الشارع ويعتبر
هذا العمل – كشف الحجاب- خطأ لا يغتفر, والفم والذقن هما أقصى ما يسمح الأدب
والتقاليد برؤيتهما, وفي رأيي أنه مبدأ طيب" .
عظيم جدا ومفيد شكرا للناشر
ردحذف