ملك حفني ناصف والوجهة الإسلامية في نهضة المرأة
لم تعرف الثقافة العربية والإسلامية على مدى تاريخها مثقفة فى قامة وقيمة ملك حفني ناصف التى إشتهرت باسم "باحثة البادية" والتى عاشت حياة مضيئة على مدى 32 عاماً فقط.
ولقد
كانت باحثة البادية فى زمانها تحظى بإعجاب المنصفين ممن يضعون رسالة المرأة
المسلمة موضعها الصحيح، إذا نالت تقدير الكبار من حملة الأقلام، حين كانت شهادة
الأقلام خالصة لوجه الحق.. ولعلنا نستشهد ببعض ما قاله الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ
الأزهر وقتذاك، ليكون مثالاً واعياً لكلمة الحق.. فهتف بكفاح باحثة البادية
محبذاً.. خطواتها قائلاً: (كان صوت باحثة البادية قوة لأنصار الإصلاح.. فلما خفت
أحسست بمكانة البلاد خالياً.. كانت تريد للمرأة المسلمة أن يملأ العلم عقلها ويملأ
الإيمان قلبها، لتغلب بقوة العلم والإيمان كل ما يقف فى سبيل حريتها وقيها، كانت
باحثة البادية داعية للإصلاح على المبادئ الإسلامية السمحة السامية، التى تسع حرية
العقل، وتسع كل جديد صالح، وتلك أسوة حسنة لنسائنا، نرجوا أن ينتفع بها رجالنا
أيضاً).
ولدت
ملك حفنى ناصف عام 1886 ونشأت فى بيت أدب وعلم وقضاء فأبوها العالم الباحث،
والشاعر الناثر والقاضي "حفنى ناصف" أحد الذين أرسوا دعائم النهضة
العلمية على هدى من تراث الإسلام، وثقافة العرب، وقد بدأ بتعليمها فى بيته، فحفظت
سوراً من كتاب الله، وألمت بدورس اللغة العربية، ومبادئ اللغة الفرنسية ثم ألحقها
بالمدرسة السنية بالقاهرة.. وكانت المدرسة الوحيدة للبنات حينئذ.. فبرزت
"ملك" فى مجال دراستها وكانت الأولى فى مدرستها، ثم إلتحقت بقسم
المعلمات السنية، وكان التعليم فيها باللغة الأنجليزية جوار المواد الخاصة للغة
العربية، فواصلت الفتاه الناهضة نشاطها، حتى كانت الأولى أيضاً عند التخرج.. ولم
تقف عند علوم المدرسة، بل إمتدت بنظرها إلى الفضاء الرحيب، فقرأت الصحف الأدبية، ودرست
ما تيسر لها من الكتب العلمية.
أعدت
"ملك" نفسها لرسالة علمية أدبية، تتجه وجهة الإصلاح الإجتماعى.. وتقدمت
إلى الصحف بآثارها الأدبية، فصادفت ترحيب الناشر والقارئ.
إرتفع
صوت "ملك" فى وقت دارت فيه المعركة القلمية حامية بين أنصار السفور
وفريق الحجاب، وقد ظن القراء أن هذا الصوت الأنثوى الجديد سينضم إلى أصحاب السفور،
لأنهم فى زعمهم أنصار المرأة، والآخذون بيدها إلى ما يتوهمون من التقدم، وقد أخذوا
يرمون محمد فريد وجدى، وطلعت حرب، ومحمد لطفى جمعة، ممن دعوا إلى الحشمة والاعتدال
بالتأخر، والرجوع إلى عهود الكبت والحرمان، ولكن "ملك" ترسل صوتها لتفند
آراء الذين يجعلون تأخر الشرق بأجمعه عائداً إلى الحجاب، ويذهبون إلى أن الفنون
الأدبية جميعها قد تأخرت فى بلاد الإسلام لإحتجاب المرأة، إذ لا يرى الفنان –شاعراً
أو رساما- أنماطاً من الحسن يرسمها بوحيه ليرتقى بالأذواق كما فى الغرب!
وإن
"باحثة البادية" لتتساءل متهمكة فتقول: إذا كان "متفرنجو" هذا
العصر لا توحى إليهم شياطنهم إلا عن طريق المرأة، فلماذا لا يبدعون فى وصفها
متنقبة كما يحبون أن يبدعوا فى وصفها سافرة، ولعلهم لا يجهلون أن بعض الشعراء
العرب مثل النابغة الذبيانى، وصف المرأة دون أن يراها؟
ولما
ربط جماعة من المتفرجين –على حد تعبير الباحثة- بين تخلفنا وبين حجاب المرأة،
ودعوا إلى مسايرة الأوربيين فى كل شئ حتى ننهض بأمتنا، ردت عليهم بمقال ضاف جاء
فيه:
من
يقرأ مقالات هؤلاء المسبحين بحمد الأوربيين يرى أنهم يعذرونهم فى كل شر أتوه، حتى
إنهم ليعذرون بائساتهم على إراقة ماء الوجوه، ولكنهم بالضد من ذلك ينظرون إلى كل
شئ فى وطنهم بعين المقت، ويعزون تأخر مصر المادى والأدبى إلى النقاب. أترى لو كنا
سافرت يوم ضرب الإسكندرية بالقنابل أكان يرتد على أعقابهم المحتلون؟ وهل كان ينفع
إشراق وجوهنا فى تبرئة مظلومى دنشواى؟.
لا
تنكر "ملك" أن المرأة ذات أثر فعال فى تقدم الأمم، ولكن من ناحية غير
ناحية السفور، إذ المدار فى هذا التقدم على تربية نفسها، وإرتقاء عقلها، وإعتصامها
بأهداب الخلق الكريم، والرجوع إلى تعاليم الإسلام.
أجل،
كانت تعاليم الإسلام هى الوجهة الثابتة، التى لم تنحرف عنها الباحثة قيد شعرة..
فهى إذا وووجهت بإعتراض ما دفعته بنص قرآنى أو حديث نبوى مستهزئة بمن ينقلون عن
مفكرى الغرب آراء لا تجد نموها الصحيح فى تربة الوطن الإسلامى، وقد كتبت مى زيادة
فى كتابها القيم، عن باحثة البادية فصلاُ رائعاً تحت عنون "المسلمة"
قالت فيه: "إذا وقفت الباحثة على بدعة مستحدثة، ورأت أمراً جديداً، سارعت إلى
إستجواب نفسها، هل فى ذلك ما يغاير الأوامر الدينية؟
فإذا
ساد نظام بين القوم، وإستحكمت روابطه دون أن يكون مقرراً فى نصوص الشريعة السمحة،
فهى لا تحفل به.
وقد
نقلت "مى" أقوالاً كثيرة "لملك" تستدل بها على صلابة إتجاهها
الإسلامى، ومنها ما إستشهدت به من حديث الباحثة عن الرقص والمخاصرة، إذ كانت شديدة
الهجوم على هذا السخف المبتذل، الذى تعد الحضارة الراهنة مبعث رقى، وآية حرية وإستقلال، وما هو غير إنحراف ساقط، يدفع
إلى الرذيلة السافرة، تقول ملك حفنى: "لا أعلم عند الأفرنجة عادة تساوى
"الزار" إلا مخاصرة الرجال فى الرقص، وما يتبع تلك العادة من التهتك
والتصنع والميل عن جادة الصواب، وما ينشأ عن إباحتها المطلقة بلا قيد ولا وزع من
الضرر البليغ والإخلال بالشرف، وأدهى من ذلك أن ينتشر بينهن فذهب حرية الإعتقاد،
وهو مذهب من لا يصدق بالله ولا باليوم الآخر، فيزعمن أنهن يجتنبن الرذائل بمحض
إرادتهن وتربيتهن، ولكن هل إذا منعت الفضيلة إمرأة عن إتيان ما لا يرضى، أفيصح أن
تطبق هذه النظرية على كل امرأة؟ إن النفس الأمارة بالسوء، ولقد تقدم على كثير من
الموبقات، لولا الضمير الحى وهو ثمرة الوازع الدينى، إننا لا نتمسك شديداً بديننا
الحنيف، وهذه بدعة أتتنا من الغرب، أو كلما رأينا إنساناً يفعل شيئاً حاكيناه، وإن
كان فى ذلك خسارة ديننا ودنيانا.
وإذا
كان الإختلاط هو السمة الأولى للمرأة الغربية، فإن الباحثة تقول فى ذم هذا الوضع
المؤدى إلى الإنحدار: ومن رأيى أن تمتنع الفتاة فى سن المراهقة هذه من الإختلاط
بالشبان، وحاشا أن أمسى بكلامى هذا شرف الفتيات، وإنما أنبه إلى أمر طبيعى .
لم
تكن ملك حفنى فى عزلة عن مجتمعها، وهى تكتب مقالاتها الإصلاحية كنفر من الكاتبين
يحتجبون عن الناس فى أبراج عالية، ويرسلون مقالاتهم فى أسلوب مترفع، بل كانت خبيرة
فاحصة، تعيش عيشة المجرب المختبر، فهى فى منزل والدها قبل الزواج تقوم مقام الأم
المريضة.. فتدبر شئون المنزل، وترعى إخواتها الصغار.. وتثقف عقولهم الناهضة بما
تختار لهم من كتب مناسبة.. ثم تقدم لهم قصائد من شعر الأطفال ليحفظوها، فإذا حضر
الزوار نادت صغارها ليقرءوا، فتثبت الروح الأدبى فى محيطها، وهى بعد صديقة ذات ود
وربة إجتماع تزور جيرانها وتدعوهم إلى تعليم البنات كما تعلمت فى وقت لم تكن فيه البنات
بمصر غير مدرسة واحدة، وحين عينت مدرسة بالمدرسة السنية، عطفت على تلميذاتها ليجدن
فى حنان "ملك" ما يعوضهن عن حنان المنزل فى فترة الإبتعاد عنه.
ثم
أذن الله فتزوجت بأحد مشايخ العرب فى الفيوم على مشارف البادية، ففتحت منزلها
للزائرات وأكثرهن لا يعلمن شيئاً من أمور التعليم والثقافة، فنادت بضرورة الذهاب
إلى المدرسة، وعملت على إنشاء مكتب صغير بالقرية لتحفيظ القرآن الكريم وحاربت
العلاج الخرافى المنتشر بين القرويات، حين تمرض إحداهن.
شغلت
الباحثة نفسها بمقالاتها الإصلاحية ترسلها إلى الجرائد اليومية فتجد الصدى القوى
معارضة وتأييداً، وهى تسافر إلى القاهرة بين الفينة والفينة، لتقوم بأعباء
إجتماعية تتمثل فى إنشائها جمعية للتمريض على غرار جمعية الهلال الأحمر، لتجمع
الأدوية والملابس والأغذية وترسلها إلى الجبهة الإسلامية التى تحارب الطليان فى
ليبيا.
كما
عملت على إنشاء مدرسة للتمريض بما جمعته من تبرعات السيدات وأمدتها بالضرورى من
الغذاء والدواء والأسرة، ثم أنشأت ملجأ لتشغيل الفقيرات بالفيوم، و كان ملجأ
الفيوم، أول ملجأ يرعى الإناث فى مصر إتسعت دائرة إتصال "الباحثة"
فراسلتها المصلحات من المسلمات فى الشرق والغرب، مثل أميرة بهويال بالهند.. وهى
أميرة مسلمة وجدت فى مقالات الباحثة صدى لأفكارها، ومثل: السيدة خالدة أديب
الكاتبة التركية الشهيرة، ومثل: الكاتبة الإنجليزية مسز تشارلوت كمرون.
وكذلك
وفدت الكاتبات الفرنسيات والأمريكيات للقاهرة، ومعنى ذلك كله أن جهاد
"الباحثة" قد خصها بتقدير عالمى، إذ نادت بالإصلاح الإجتماعى عن طريق
الإسلام، ولم تكن مثل من خدعتهن البوارق الخاتلة، فطلبن الإصلاح عن طريق المحاكاة
للأوربيات وهذا ما عناه الدكتور منصور فهمى حين أفرد لها فصلاً هاماً يتحدث عن
نضالها الإجتماعى، وقال فيه محبذاً فخوراً: "لقد كانت "ملك" ترسم
خطوط الإصلاح، وهى متسمة بميسمها الشرقى والمصرى والإسلامى، كما كانت تعتز بكثير
من مقومات مصر والشرق والإسلام، مادامت تلك المقومات لا تجافى الطبع السليم فى شئ،
فمن أجل ذلك كله كانت صلتها وثيقة بالميدان الذى تعمل فيه، ومن ثم كان لصوتها صدى
مسموع، وكان توجيهها مقبولاً".
كانت
الباحثة راصدة لكل ما يقع تحت عينها من مواقع الضعف الإنسانى فى الرجل والمرأة
معاً.
يقول
الدكتور محمد رجب البيومى عن ملك فى هذا الشأن: لم تكن فى عزلة من مجتمعها وهى
تكتب مقالاتها الإصلاحية، عما تراه من مآخذ تتعلق بالرجل والمرأة، وكان الظن بها
أن تتجه إلى الرجل وحده، ولكن الباحثة تهدف إلى صلاح المجتمع الإسلامى بجناحيه،
عالمة أن صلاح الجناح الواحد، لا يدفع الطائرة إلى التحليق، إذ لابد أن يكون
الجناحان معاً فى درجة ممتازة من القوة تقدر على الصعود فى أعلى الطبقات، من الجو
مخترقة هوج الرياح فى ثبات وإطمئنان.
ومما
رصدته من مآخذ المرأة إسراف المراة ومبادرتها سواها فى التبذير حيث لا موجب.. وقد
يبدأ الإسراف قبل الزفاف حين تكلف الواحدة أباها بما لا طقة له به كيلا ينقص
جهازها عن جهاز جارتها.. وقد يكون الأب ميسوراً فلا يجدر حقا فى إعداد ما يراد..
ولكن ماذا يصنع إذا كان محدود الدخل، ووجه بما لا يستطيع، وعلة هذه المباراة بين
الزوجة ومن تعرف من صاحباتها هى الحسد الذى يأكل القلب، تقول الباحثة بصدد ذلك:
"إن الفقر لا ينزل الإنسان من رفعته، إذ الإعتبار الحقيقى هو بالفضائل لا
بالمال، فماذا يضر المجتمع الإنسانى إذا كنت أفقر من صاحبتى أو كانت هى أفقر منى،
بل ماذا يفيد محاكاتى لها إذا كنت لا أستطيع بمعناها الصحيح، هى تقدر أن تتجمل
بالثياب الحريرية، والألماس الكثير لمالها وغناها، ولكنى قصيرة اليد عن الإتيان
بمثل ما عندها، أفليست القناعة خيراً وأولى، إن الغنى ليس متيسراً لكل فرد، فأولى
أن يلزم كل وحدة فلا يكون مثلنا كمثل الضفدع التى أحبت أن تبلغ حجم الثور،
فإستعانت بالماء فإنفجر جوفها وماتت".ومن المآخذ التى وجهتها الباحثة إلى
الرجل فهي إزدراء المرأة فذكرت إن إزدراء الرجل للمرأة يظهر جليا فى أفعاله
وتصرفاته، إذا حزن يوماً لا يكاشفها بما يؤلمه، وإذا نوى الشروع فى عمل يعدها
غريبة عنه فلا يخبرها، يخرج من البيت ولا يعود إليه إلا لأمر ضرورى، لأن سعادته فى
مسامرة الأصدقاء فى المقاهى، لا فى مؤانسة الزوجة، وقد زار رجالنا بلاد أوربا
فرأوا إحترام المرأة وتقديرها، وهم فى بلادنا بأرض مصر إذا رأوا سائحة أفرنجية
تلطفوا لها كثيراً، فساعدوها فى النزول من عربتها، وحملوا لها حقيبتها، فى حين أن
أحد الأزواج يضيق بمصاحبة زوجته فى مركبة واحدة، وإذا ذهبت لشراء حاجة ما من حاجات
المنزل ألقى العبء عليها،وجلس مستريحاً في مقهاه حتى تقضي حاجة المنزل وحدها، مع
كثرة الزحام وبذاءة بعض السائرين من ذوى الرقاعات، وقد يرصد عليها العيون وهى
سائرة، فأى سبة للمرأة الطاهرة العفيفة أنكى أثراً واشد إيلاماً من أن يحوطها
زوجها بالرقباء إذا إنتقلت من مكان إلى مكان.
وحديث
الباحثة عن إحترام السائحة الأفرنجية، دون المرأة المصرية، يذكرنا بتحذيرها الملح
من الزواج بالأجنبيات، إذ تتبعت هذه الظاهرة منذ إبتدائها فى عصرالخديوى إسماعيل حين هجم علينا جيش من الشركسيات، فخرج
ظافراً بأحسن رجالنا، فلم يبق نابه أو ثري فى مصر إلا وأم ولده جارية شركسية من
مشتريات إسماعيل، ثم بطل الرق فهرع المتنورون إلى الزواج بالأوربيات، وليتهن –كما
تقول الباحثة- من ذوات الشرف، ولكن أكثرهن أن لم نقل كلهن من فريق الراقصات
والخادمات وأشباههن، وتلك صراحة من الباحثة تشابه صراحتة حين حاربت تعليم الفتاة
فى مدارس الراهبات، إذا أن أكثر القائمات والقائمين بالتدريس فى هذه المدارس لعهد
الكاتبة أجانب غير مصريين، وحسبك أن يكون تاريخ فرنسا مثلاً موضع الإهتمام فى دروس
التاريخ، بحيث تعرف التلميذة المصرية عن نابليون أكثر مما تعرف عن عمر إبن الخطاب،
وصلاح الدين الأيوبى!
لم
تمتد الحياة بالباحثة، فقد لقيت ربها فى سن الثانية والثلاثين بعد مرض لم يلبثها
غير أيام، فرحلت مبكياً على نبوغها وغيرتها وإخلاصها، وكانت جديرة بقول القائل:
يا
كوكبا ما كان أقصر عمره وكذاك عمر
كواكب الأسحار
المصادر:
1-
النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين ج5
د.محمد رجب البيومي
2-
ردود إسلامية في قضايا معاصرة د.ابراهيم
عوضين
3-
آثار باحثة البادية جمع مجد الدين ناصف