مجتمع بوست | تمرد الأبناء.. وديكتاتورية الآباء
واقعة
مثيرة للشجن نشرتها الصحف عن شاب أردنى يبلغ من العمر 18 عاماً، افتعل انه مستغرق
فى النوم، ولم يستجب لنداء الأمن لسرعة الذهاب للطائرة وبعد مرور ساعات وتأكده من
إقلاع الطائرة، ظهر فى المطار مدعياً أنه غرق فى نوم عميق، وعند التحقيق معه اعترف
أنه فعل ذلك حتى لا يعود لوالده الذى يقسو عليه ويعنفه دوماً.
هذه
الواقعة تدل على إلى أى يمكن أن تؤثر ديكتاتورية الآباء على نفسية الأبناء الذين
يحتاجون إلى وعى أبوى تربوى خاصة فى مرحلة والمراهقة.
نصح
عمر بن الخطاب الآباء قبل أربعة عشر قرناً قائلاً: "دعوهم فإنهم خلقوا لزمان
غير زمانكم".
والحقيقة
أن قضية أزمة الثقة بين الآباء والأبناء تكتسب اهتماماً متزايداً إذا علمنا أن
كثيراً من جرائم الأحداث وانحرافاتهم -93% منها كما تسجل إحصاءات مركز البحوث
الجنائية والاجتماعية بالقاهرة –تنشأ أساساً كانعكاس لهذه الظاهرة ، وعلى سبيل
المثال فإن أشهر الحوادث الجنائية التي تعرضت لها مصر والتى (دارت أحداثها في قرية
"قها" القريبة من القاهرة) لم يكن البطل الحقيقي وراءها هو الحدث الصغير
(الصف الأول الثانوي) الذي أقدم على قتل أخته الكبرى وأخيه الأصغر وإنما كانت هي
أزمة الثقة التي ميزت العلاقة التي تربط بين ذلك الحدث الصغير القاتل وأبيه مدرس
اللغة العربية ، فكما جاء في اعتراف الطفل فقد كان أبوه يرفض إعطاءه نسخة من
مفاتيح المنزل في الوقت الذي يعطي فيه أخته الكبرى (الفرقة الأولى بكلية التجارة)
نسخة من المفاتيح ويعاملها بأسلوب يتسم بالثقة الكاملة، وقال الطفل في أوراق
القضية التي حفظتها ملفات الشرطة المصرية "كانت القسوة من نصيبي والملاطفة من
نصيب إخوتي والشك من نصيبي والثقة من نصيب أختي الكبرى، وبسبب المفاتيح كنت أضطر
إلى الانتظار لمدة ساعتين أمام باب المنزل حتى أدخل مع أبي أو امي أو اختي أو حتى
يأخذني أحد الجيران للجلوس عنده لحين عودتهم ، وكان هذا الوضع يعرضني لسخرية
زملائي الذين يكررون على مسامعي دائماً أن أبي لا يعتبرني رجلاً وهو ما دفعني إلى الانتقام
منه عن طريق حرمانه من أختي الكبرى وأخي الأصغر (ثلاث سنوات) رغم أني أحبهم كثيراً
"!
مثال
ثان: ذلك الطفل الذي أقدم على سرقة أكثر من عشرين سيارة وهو دون الثانية عشرة من
العمر وحين ألقت الشرطة القبض عليه قال انه فعل ما فعل ليثبت لوالده أنه قادر على
النجاح في مجال من المجالات، ولو أضفنا إلى ذلك اعترافات الأعداد المتزايدة من
الأطفال الذين يقبلون على تعاطي المخدرات لوجدنا أن حديثهم عن معاملة أسرهم يتكرر
مع اختلاف بسيط في التفاصيل ، ولكن تبقى الرغبة في إثبات الذات هي الدافع الرئيسي
وراء جرائمهم .
تربية
الفضائيات
وتكشف
شهادات المراهقين من ناحية أخرى عن طبيعة الحرب الباردة التي تدور رحاها داخل
البيوت.. "ش. أ" التلميذ بالثانوية يعترف أن أهم عقبة في طريق سعادته هي
أبوه –كما يقول- ويضيف: يحرمني من كل شئ أحبه ويحرص على الاستهزاء بي والسخرية من
أصحابي، وقد يوجه لهم الإهانات إذا صادفهم في المنزل أو على سماعة الهاتف حتى
أصبحت أضحوكة بينهم، وأصبحوا يتحاشون زيارتي ونلتقي فقط أمام باب
"العمارة" أو في النادي أو بعد انتهاء اليوم الدراسي.. وذلك رغم أني من
المتفوقين في دراستي ولكنه، ينسب الفضل في هذا التفوق لنفسه مؤكداً أنني ما كان
يمكن أن أتفوق لولا معاملته لي .
نفس
الشكوى يرددها "أحمد خيري بكر" التلميذ بالمرحلة الثانوية أيضاً فأبوه
لم يترك له مساحة ليتخذ أي قرار وأوشك على أن يختار له أحلامه فهو يختار له
أصدقاءه وملابسه والقسم الذي يدرس فيه ويجبره على أكل أصناف الطعام التي لا يحبها
بدعوى أنه يفهم أكثر..
ويضيف
الابن: ذات مرة قلت له لماذا لا تخطط لنفسك ولحياتك وتتركني أخطط لنفسي ولحياتي؟!
وكان هذا سبباً في أن أحصل على "علقة ساخنة" ولكنني مازلت أحلم باليوم
الذي أستطيع فيه أن أخذ قراراتي بنفسي وأثبت للجميع أني رجل .
شكاوي
الآباء على الجانب الآخر تبدو معروفة ومتوقعة ، فكما يقول (أب لثلاثة أبناء أكبرهم
في المرحلة الثانوية: أنا لا أتعمد القسوة أو الضغط على أبنائي ولكنهم عندما يصلون
إلى مرحلة المراهقة يكون التعامل معهم شديد الصعوبة وتصبح لديهم رغبة عارمة في كسر
القيود وتحدي الممنوعات والتطاول على الجميع ، وعندما يصل الأمر إلى هذه الصورة
يصبح النقاش أو الشرح مستحيلاً، ولذلك لابد من إجبارهم على ما هو صحيح .
أب
آخر يقول: العلاقة بين الآباء والأبناء ليست صراعاً وتنازعاً على السلطة، ولكن دور
الأب كموجه ومرب يفرض عليه ألا يترك أبنه يسير في طريق خطأ ، وبالطبع نحن نعلم أن
دخول المراهق في التجارب الخاطئة سيزيد من خبرته ولكن لا يمكن أن تنتظر من أب أن
يترك ابنه يسير في طريق يعلم أنه غير صحيح بدعوى الاستفادة من التجربة والخطأ ن
فما المانع أن يستفيد المراهق بتجارب من سبقوه ليتجنب أخطاءهم ؟! ومن وجهة نظري
أننا لو سمحنا لأبنائنا بتكرار نفس الأخطاء التي وقعنا فيها لكان ذلك مضيعة لعمرهم
ولما تقدمت الدنيا، وعموماً فالتهمة الجاهزة على لسان الأبناء اليوم هي أن الآباء
غير قادرين على مواكبة العصر، وكأننا جئنا من الماضي السحيق ، وهذا غير صحيح
بالطبع لأن معظم الآباء مازالوا شباباً ويعيشون واقعهم ولكن ينبغي أن ندرك أن
تربية الشباب في عصر الفضائيات وإزالة الحواجز –حيث يصبح كل شئ متاحاً- هي أصعب
كثيراً من التربية في الماضي.
صراع
الجيلين
إذن
هناك أزمة باعتراف الجميع ولكن ما الذي يؤدي إلى حدوث ذلك كله ؟
الإجابة
تأتي على لسان الدكتورة زينب حسن أستاذ أصول التربية بكلية البنات بجامعة عين شمس
بالقاهرة- قاسية بعض الشئ على الآباء مبررة ذلك بأنهم بحكم دورهم وعمرهم يجب أن
يكونوا أكثر فهماً وقدرة على التصرف الصحيح وهو ما لا نستطيع أن نطلبه من المراهق
، فالآباء في معظم بلدان العالم العربي يتبعون سياسة تربوية خاطئة تقوم على القهر
وعدم الاعتراف بحقوق الأبناء في التفكير والتصرف والتجربة والخطأ ، وهذا القهر
يدفع أبناءهم إلى اتخاذا المواقف المتطرفة فيرفضون السلطة "الوالدية"
ويهاجمونها وعند ذلك يفقد الوالدان كل سيطرة لهما على سلوك أبنهما، كما أن هذا
القهر والتدخل الدائم في تفصيلات شئون الأبناء يقيم حاجزاً نفسياً بين الجيلين
ويشوه صورة الوالد في عيون أبنائه ويمثله لهم على أنه "ديكتاتور" وهذا
الشعور قد يؤدي إلى عداوة تنشأ كامنة في المراهق تجاه والده وقد تؤدي آخر الأمر
إلى انفصام العري الأسرية، وقد ينتج عن العكس من ذلك طفل عدواني لا يحترم الرأي
الآخر ولا يعترف به أو يؤدي إلى تكوين شخصية الديكتاتورية، وقد ينتج على العكس من
ذلك طفلاً ضعيف الشخصية غير مستقل الرأي وغير قادر على اتخاذ القرار أو على تحمل
المسئولية.
والغريب
كما تقول الدكتورة زينب حسن إن الخليفة الراشد الثاني عمر ابن الخطاب –قبل أربعة
عشر قرناً من الآن- كان فطناً إلى هذه الرؤية التربوية فأوصى من يخطئ تربية أبنائه
قائلاً: "دعوهم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم" .
وهو
إذن ينصح بضرورة أن يترك الآباء لأبنائهم مساحة من الحرية تسمح لهم بتكوين شخصيتهم
والتزود بالخبرات التي تمكنهم من مواكبة عصرهم وتطوير دنياهم، فلو حرص كل الآباء
أن يكون أبناءهم نسخة منهم لتوقفت الدنيا وجمدت في مكانها.
بالنصح
والود
نفس
النصيحة يؤكد عليها أيضاً الدكتور عبد الغني محمود أستاذ التربية بجامعة الأزهر
فهو يشرح حدود العلاقة الصحيحة بين الوالد وولده في إطار كلمات الخليفة عمر بن
الخطاب مشيراً إلى المثل العامي المصري "إن كبر ابنك خاويه" أي أتخذه
أخاً لك، وكن له أخاً .. ويقول إن العلاقة بين الأخ وأخيه علاقة ندية لا يملك فيها
أحد فرض قرار على الآخر وهي مع ذلك علاقة تملؤها الرحمة والنصيحة الصادقة وحب
الخير للآخر لأن فيها صداقة عميقة شديدة، وإذا أستطاع الأب أن يقنع ابنه المراهق
بأنه أخ وصديق له فيفتح له قلبه ويبذل له النصيحة دون أن يلزمه بها، ويجب أن يسمع آراءه
دون ان يعاقبه أو يؤنبه على كل خطأ –فإنه عند ذلك يضمن أن يصارحه أبنه بكل صغيرة
وكبيرة في حياته، أما الحزم فينبغي أن يدخره الأب لأشد المواقف أهمية وضرورة حتى
لا يتحول الأمر إلى كبت وقيود يضيق بها الأبناء.. ولابد أن يعطي لابنه مساحة للاختلاف
عنه لأن احتياجات العصر وطبيعته تختلف من جيل إلى جيل .
يبقى
أخيراً أن نؤكد أن هذه الرؤية تتفق مع وجهة النظر الدينية حيث يشير الدكتور محمد عبد
العظيم الاستاذ بالأزهر الشريف إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "داعب أبنك
سبعاً وأدبه سبعاً ، ثم أترك الحبل له على الغارب" فالطفل حين يبلغ عمر
المراهقة -14- عاماً تقريباً ينبغي أن تتحول علاقته بأبيه إلى علاقة أخوة كما يشير
الحديث وهي علاقة مبنية على الاحترام وعلى الثقة ، ومع ذلك فإن سلوك الآباء فيها
يجب أن يتميز بالقدوة والمثالية والإيثار وحينما يجد المراهق ذلك لا يملك إلا أن
يميز في أعماق نفسه بين الخير والشر وان يقتدي بسلوك والديه ويقال :"عمل رجل
في ألف رجل من قول ألف رجل في رجل" .
ويضيف
الدكتور عبد العظيم انه يجب على الوالد أن يعد برنامجاً تربوياً لابنه في هذه
المرحلة يكرس فيها لديه إحساسه بالبلوغ والنضج والمسئولية فيكلفه مثلاً بتدبير
شئون المنزل أو الإمساك بالنفقات أو يرسله لقضاء المصالح ويظهر له في كل ذلك ثقته
فيه واطمئنانه إلى تصرفاته ولكنه –أي الوالد- من وراء ستار ينبغي له ألا يكف عن
مراقبة سلوك ولده الشخصية ليعرف ما فيها حتى يطمئن إلى ما فيها ، وأن يجلس مع
أصدقائه ويتعرف عليهم ويتحبب ويتودد إليهم ، وأن يعرف الكتب التي يقرؤها، وأن
يواصل دائماً نصائحه له بأسلوب هادئ محبب إلى نفس.