وصف المدون

مجتمع بوست مدونة اجتماعيه توعوية إخبارية تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها شتى الموضوعات التى تهم الأسرة والمجتمع العربي, أخبار, ثقافة, اتيكيت, كتب, علوم وتكنولوجيا, مال وأعمال, طب, بيئة

إعلان الرئيسية

اتفاقية أبراهام ودولة الحاخام .. 
(قراءة رمزية في التحولات السياسية والروحية للشرق الأوسط المعاصر)

اتفاقية أبراهام ودولة الحاخام

بقلم: د. محمود خليل – القاهرة

لا شك أن أي عاقل على سطح الأرض، يسعد من قلبه وروحه بحقن الدماء ولو كانت قطرة، ومنح الحقوق ولو كانت ذرة، وحماية المخلوقات ولو كانت نملة.


لكن الهوس الترامبي، الذي لا يفتأ يجلجل بإنجازه المنقطع النظير، في جولته الرئاسية الأولى والثانية بنجاحه في فرض اتفاقية إبراهام على دول المنطقة، والقفز إليها في كل خطاب، والشنشنة بها في كل مناسبة وفي غير مناسبة، يعلنك بما لا يدع مجالاً لأدنى شك أن عصابة (الصهيوصليبية) الجديدة التي تحكم العالم الآن قد وصلت إلى محطتها الأخيرة على متن عربات جدعون المزيفة.

وفي مساءٍ مثقلٍ برائحة البارود المعبأ، والتاريخ المزور، القافز على ركام (ملحمة العصر الغزاوية) التي سطرها أسود الطوفان، يتنفخ مجرثمًا هذا الهوس الترامبي المتعلق بـ اتفاقية إبراهام، والزج بها في فضاء الصراع المفتوح على أنها المفهوم الموازي لدولة إسرائيل الكبرى، وكأنّها الوعد التوراتي المؤجل، الذي يتخلق من جديد في جغرافيا قديمة، لم تعرف إلاّ النزاع والمآسي، لا سيما وقد ضرب الوهن بلدانها وأهلها في الصميم بحب الدنيا وكراهية الموت.


ومن ثم، يحاول الثور البرتقالي الهائج أن تبدو هذه الاتفاقية واقعاً مفروضاً لا معروضاً، في تظاهرة استعراضية وسط هذه الفوضى القانونية، ووسط لحظة زهو الصورة وضياع المضمون، على أنها منحة أمريكا المتوحشة إلى إسرائيل المتعبة، وفرض تمددها في بلاد الأعراب المرتهنين في قاعات الابتزاز المغلق والواقع المفصوح.


كما يبدو الإلحاح على ذكر هذه الاتفاقية كورقةٍ دبلوماسية خشنة بين دولٍ متوجسة، تأتي كعنصر ابتزاز مسبق وورقة نهب مكشوف مع سبق الإصرار والترصد (الأمريصهيوني) على امتداد خط الشيطان الموصول بين واشنطن وتل أبيب، وعلى مدى التفاف أفعى يهوذا لتطويق المنطقة عيانًا بيانًا.


كما أنها تأتي كخطاب ميتافيزيقي يغامر بتبديل ملامح المنطقة، حيث تتداخل المصلحة السياسية المدنسة مع الحقيقة الدينية المقدسة، ويتقاطع الواقعي بالأسطوري، ولا يجد العرب في وقيعتهم من ينوح لمصابهم غير النوائح المستأجرة التي لا تبكي إلا لأخذ الدراهم.


أولًا: من الصحراء إلى الطاولة (البعد الرمزي للاتفاق)

يُستدعى زورا وفجوىا، خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، من عمق العقيدة والميثولوجيا ليكون راعيًا – زورًا وبهتانًا – لاتفاقٍ بين خصوم الأمس واليوم والغد، وكأب لفئة فاجرة يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعبه المختار، على حساب فئة آمنت به كأبٍ للأنبياء، وتسمت بما سماها به:

“هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا” (الحج ٧٨).

ذلك الأب الذي تنزلت عليه وعلى بنيه دياناتٍ ثلاثًا، يصبح فجأة مظلةً سياسية مكذوبة ومقلوبة ومشوبة ومعيوبة (حاشاه وكل الأنبياء ذلك)، ليتغنى باسمه قوم ملحدون فجروا حتى حاربوا ربهم، وبغوا حتى قالوا:

“إن الله فقير ونحن أغنياء” (آل عمران ١٨١).

ومن هنا تكمن المفارقة، فبينما يقول الله عز وجل:

“ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين” (آل عمران ٦٧).

ويقول تعالى أيضًا:

“ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب، يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون” (البقرة ١٣٢).

يُستحضر إبراهيم كرمزٍ للوحدة الروحية المقدسة، ليُسوق في بورصة السماسرة وسوق الملحدين الجدد، وتُستخدم صورته لتجميل مشروع سياسي قبيح لا يخلو من الغموض اللعين والمصالح الفاجرة.

إن اتفاقية إبراهام تحمل وعدًا وهميًا أكثر مما تحمل مضمونًا واقعيًا، فهي لا تُعنى بالسلام، بقدر ما تسعى إلى إعادة تعريف الشرق الأوسط وفق رؤية (أمريكية – إسرائيلية) تضع الأمن والاقتصاد فوق العدالة والتاريخ، وتمر بالتلمود من وراء القرآن والتوراة والإنجيل، وتعلو بأم القنابل على أصل الحقائق، بما يجعل من غزة (ريفيرا ترامبية فاخرة)!!

اتفاقية أبراهام ودولة الحاخام


ثانيًا: دولة الحاخام (الرمز والسلطة)

وكأنّما تسير المنطقة نحو صيغة جديدة من حكم التلمود الرمزي، حيث الحاخام ليس رجل الدين الكذاب فقط، بل هو السياسي المدسوس، والإعلامي الفاسق، والتاريخ المزور، والاقتصادي المهيمن.


الكيان الصهيوني، وإن بدا علمانيًا، إلا أنه يُدار في باطنه بروح حاخامية لعينة، حيث تُبنى سياساته وثقافته على المرويات التوراتية التي تُشرعن الاحتلال والاستيطان وتمنح الفجور قداسة أنبياء يهوذا.


ثالثًا: الجغرافيا تتبدّل والروح تُختطف

اتفاق شرم الشيخ الأخير لم يكن مؤتمر سلام بل عرضًا لولادة شرقٍ جديد بلا فلسطين.
تُمسح الحدود القديمة، وتُرسم بدائل اقتصادية، ويُعاد تعريف الهوية وفق ما يخدم التحالف الأمني ضدّ الأعداء الجدد.


رابعًا: المعضلة الأخلاقية (سلام بلا عدالة)

ليس السلام ما يُكتب في بيانات القمم، بل ما يُزرع في قلوب الشعوب.
فما دام الطفل الفلسطيني يُولد في أشلاء خيمة، والقدس تُمحى من الخرائط، وغزة تُقصف لآلاف الساعات، فإن “السلام الإبراهيمي” لن يكون إلا سلام الحاخام والإجرام.


خامسًا: الأسطورة الجديدة (من إبراهيم النبي إلى إبراهيم السياسي)

لقد تحوّل إبراهيم من رمز للتوحيد الإنساني إلى رمزٍ سياسي مزور، برعاية واشنطن.
الإبراهيمية لم تعد رابطة إيمانية بل أداة دبلوماسية كاذبة.
يُعاد تشكيل الوعي العربي بحيث يُصبح التطبيع “إيمانًا جديدًا”، والقبول بإسرائيل “فضيلة إبراهيمية”.


سادسًا: بين اليوتوبيا والهاوية

في الحلم الصهيوني، يبدو الشرق الأوسط الجديد فضاءً للتسامح والتجارة، لكنه في الحقيقة مشروع لإعادة تشكيل النفوذ الصهيوني وتطويق المنطقة وتثبيت إسرائيل كقوة مركزية.


سابعًا: نحو قراءة إنسانية للسلام

الشرق الأوسط لا يحتاج إلى سلام الحاخام، بل إلى سلام الإنسان؛ سلام يعترف بالآخر كشريك في الإصلاح لا كتابع للهيمنة.


سلام تُفتح فيه القدس لله وحده، وتُكتب فيه التوراة والقرآن والإنجيل كما نزلت من عند الله، على صفحة واحدة من الحق والعدل.


خاتمة: بين المسير والمصير

إن اتفاقية إبراهام وولادة ما يشبه “دولة الحاخام” ليست نهاية التاريخ، بل مرحلة جديدة من صراعٍ قديم بين المقدّس والمصلحة، بين السماء التي تنادي بالحقيقة، والأرض التي تُدار بالسمسرة.


قد تُفرض الاتفاقيات على الورق، لكنّ الأمم لا توقّع إلا بضمائرها، وفلسطين لم ولن توقّع إلا على الحق. ولم ولن تعترف إلا بالحقيقة ولأن (فرسان الطوفان) لازالوا يخطرون جبريل على ثنايا النقع فإن التاريخ نفسه.. لم يُغلق الصفحة بعد. 
ولن يستطيع ذلك إلى أجل غير مسمى.. فانتظروا... إنا منتظرون؟!


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

Back to top button