وصف المدون

مجتمع بوست مدونة اجتماعيه توعوية إخبارية تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها شتى الموضوعات التى تهم الأسرة والمجتمع العربي,أخبار,ثقافة,اتيكيت,كتب,علوم وتكنولوجيا,مال وأعمال,طب,بيئة

إعلان الرئيسية


د. هاني محمود يكتب: حين تزحف الحداثة على التراث: القرافة الكبرى ومخاوف قطع الجذور

تعتز الأمم الواعية بتراثها، وتبذل في سبيل الحفاظ عليه كل غال ونفيس؛ فالتراث يحمل ركائز الهوية، ومعالم التاريخ، وذاكرة الحضارة، وعناصر الإحياء.

وتمتلك مصر من ذخائر التراث، وكنوز الآثار، ما يعز نظيره في أمة من الأمم؛ فهي الأمة العريقة، ذات حضارة السبعة آلاف سنة، والجذور العميقة الضاربة بأطنابها في تربة التاريخ السحيق.

ذخائر نفيسة 


ومن تلك الذخائر النفيسة: القرافات الأثرية بالقاهرة، تلك النفائس التي تمتد على مساحة عشرات الكيلومترات وعلى رأسها القرافة الكبرى التي تمتد على طول سفح المقطم وتضم رفات جمهرة عظيمة من الأعلام النبلاء وكبار الأولياء وعظام العلماء.

وما لا يعلمه كثيرون أن القرافات القديمة بالقاهرة تعد من المقاصد السياحية إضافة إلى قيمتها الروحية؛ حيث يؤمها كثير من غير المصريين الذين يحبون علماء مصر وصالحيها المدفونين في القرافة؛ ففيها أمثال العز بن عبد السلام سلطان العلماء، والحافظ ابن حجر شارح صحيح البخاري.

وبالتالي فلها قيمة تاريخية ومعنوية لا يمكن أن تقدر بمال؛ لأنها مهوى أفئدة المحبين لأولياء الله الصالحين، والملتمسين للطائف الروحانية التي يشعر بها زائرو هذه المراقد الشريفة.

الحافظ ابن حجر



وقد بلغ من تعلق العلماء بالقرافة أن جعلوها بمثابة الموطن الذي ينسب إليه العالم؛ فهذا الإمام القرافي شهاب الدين أحمد بن إدريس (ت: 684هـ) لقب بالقرافي نسبة إلى القرافة . وهو من أئمة المالكية المجددين، وتلميذ سلطان العلماء العز بن عبد السلام.

وقد كان لي تجربة روحية مفعمة بالسكينة النفسية حين زرت تلك القرافات ومازجت مراقد الإمام الشافعي والحافظ ابن حجر وغيرهم من أئمة الهدى ومصابيح الدجى.

شعرت بضآلة حجمي وأنا أقف أمام مراقد هؤلاء العظماء الذين أنتج الواحد منهم علوما باسقة ربما تعجز المجامع العلمية الآن عن إنتاج ما يماثلها في نفاستها؛ لأنهم كانوا أصحاب فتوح زادها الإخلاص وحسن التحمل لأمانة البلاغ وهذه القيمة العظيمة لا يمكن أن يعوض عنها أي مكسب مادي مهما كان كبيرا، ولا أي عائد تنموي مهما كان مفيدا؛ فكل فائدة مادية تتضاءل أمام المكانة المعنوية والروحية التي تحوزها تلك المعالم رفيعة الشأن.

د. هاني محمود يكتب: حين تزحف الحداثة على التراث: القرافة الكبرى ومخاوف قطع الجذور



الوائد الطبيعية


ولا تقف أهمية القرافة عند القيمة التاريخية ، فلها فوائد طبيعية ، فهي رئة القاهرة ومتنفسها، إذ تشكل مساحة شاسعة من الأرض الفضاء التي تقي القاهرة من تغول الزحف العمراني (الخرساني) الخانق للبشر، وبهذا فهي تعمل عمل الرئة البيئية للعاصمة، فبقاؤها إذن يعد مطلبا بيئيا ملحا لا ينبغي التفريط فيه وهذه المساحة الفضاء لا ينبغي أن تغرينا باستثمارها في مشروعات عمرانية أو ربحية على حساب القيمة الحضارية والمكانة التاريخية والنفاسة الروحية فالمكاسب المادية مهما علت لا يمكن أن تعوض الخسارة الفادحة التي تخسرها مصر من جراء تغول الزحف الخرساني على رئة القاهرة ومجمع رفات علمائها وأوليائها الصالحين.

ولا نعرف أمة فرطت في تاريخها إلا وعاد ذلك عليها باغتيال الأمل في انتعاش حاضرها وازدهار مستقبلها
هل يجرؤ الفرنسيون على العدوان على قبر نابليون، وهل يتجاسر الإنجليز على هدم قبر تشرشل منقذ أمتهم من الانهيار!
فما بالنا تطاوعنا نفوسنا على اغتيال أئمتنا وأعلامنا معنويا، وإيصال رسالة سلبية مفادها أن الميت لا قيمة له إزاء التوسع العمراني!

فتوى دار الإفتاء المصرية


أحسنت دار الإفتاء المصرية صنعا إذ أصدرت منذ سنوات فتوى حاسمة تحرم إحلال المشروعات العمرانية محل القرافة التي تضم رفات خيار الصالحين من رواد العلم والتربية الروحية ولو أحسنا التفكير والتخطيط لأنفقنا على ترميمها وتجميلها؛ إذ تعد من التراث العالمي الذي تؤكد منظمة اليونسكو وغيرها على ضرورة الحفاظ عليه ولو فعلنا ذلك لصارت عامل جذب سياحي يجذب المزيد من السائحين المسلمين المتعلقين بأولياء مصر وعلمائها الصالحين، والراغبين في اقتباس الزاد الروحي من عاطر سيرهم وناصع تاريخهم ولو أردنا أن نضيف المزيد من حسن التخطيط لنظمنا فيها منتديات للتعريف بسير هؤلاء الأعلام النبلاء؛ كي يدرك الناس عظيم ما تتمتع به مصر من ذخائر التراث وعظماء الرواد الذين أسهموا في بناء هذه الأمة بعظيم الأفعال وعاطر السير، وكريم المآثر، وأورثوا أرضها الطيبة وشعبها الكريم أنبل المفاخر، وأعظم المآثر.

الحلول الهندسية


وإن كانت هناك مطالب تنموية ملحة فيحل الأمر بحوار بين الخبراء الهندسيين يأخذ في الاعتبار إيجاد حلول هندسية مع الحفاظ على الإرث التاريخي بمنأى عن تغول الزحف الخرساني، فلا اعتبارات عمرانية تسوغ إفقاد مصر هذه الثروة التراثية التي يعز نظيرها في الأمم ومن شأن التفريط فيها أن يجعلنا أحدوثة بين الأمم التي تعرف قيمة التاريخ ونفاسة التراث.

لا بد من تسجيل هذه القرافات في سجل الآثار المشمولة بالحماية، ومخاطبة الجهات المعنية بحماية الآثار من أجل تعزيز حمايتها وينبغي تعديل شرط التسجيل الحكومي المشترط لاعتبار المبنى من الآثار؛ لأن هذا الشرط ضيع كثيرا من المباني ذات الدلالة التاريخية والحضارية المهمة، ومنها قبر الإمام السيوطي، ولا يزال يعرض أماكن لم يمر على بنائها 100 عام لكنها ذات قيمة ثقافية تستحق معاملتها معاملة الآثار المتعين الحفاظ عليها.

وقد اطلعت على بعض التقارير التي بينت أن الفرنسيين وغيرهم يعاملون مباني لم يمر على بنائها 100 عام معاملة الآثار؛ نظرا لقيمتها الثقافية الكبيرة يكفي أنا فقدنا مقابر أعلام كالمقريزي وابن خلدون في عمليات توسعة الطرق في حقبة سابقة، ومن المؤسف أن نفقد المزيد من هذه المراقد الشريفة في عمليات الزحف الخرساني غير المدروس بعناية
لا تسمحوا لفتنة الحداثة العمرانية بأن تغوينا فنقع في خطيئة الزحف على التراث، فاغتيال الماضي ينذر ببؤس الحاضر وكآبة المستقبل.

لا تجعلوا الأجيال القادمة تلعننا لأنا أورثناهم سنة سيئة ولم نحافظ على إرث أجدادهم !

إن الأمم الواعية يملؤها اليقين بأن رشاد الحاضر رهين حفظ التاريخ، وأن إشراق المستقبل يتوقف على إدراك القيم غير المادية وحمايتها من الإهدار ..

لا تشوهوا جمال الماضي بتلك الكتل الخرسانية التي تغتال عراقة الأصالة؛ من أجل حفنة من النقود نخسر أضعاف أضعافها إن سمحنا لهذا الزحف البائس أن يكتمل مجهزا على جواهر حضارتنا، ونفائس تراثنا، ومآثر أجدادنا!

كفانا انتهاكا لحرمة الموتى، فقد أخرج أبو داود وابن ماجه وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن كسر عظم المؤمن ميتًا مثل كسره حيًا.

د. هاني محمود يكتب: حين تزحف الحداثة على التراث: القرافة الكبرى ومخاوف قطع الجذور



د/ هاني محمود
مدرس ‏الشريعة والقانون‏ في ‏كلية الشريعة والقانون عين شمس
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

Back to top button