0/ مدخل : الحرص على البراءة!
تاريخ
التوجه إلى الطفولة والشعور بها عريق جدا في التاريخ الأدبي العربي بوجه عام، وفي تاريخ
الشعر العربي بوجه خاص، فمنذ الجاهلية تطالعنا وجوه عدد من النصوص تغازل الطفولة، وتحنو
عليها، وتشفق على ضعفها الجميل، وترنو إلى رحمتها والشفقة بها.
ومن
هذا التاريخ القديم تطل علينا أمثال قصيدة إسحاق بن خلف الشاعر التي روتها حماسة أبي
تمام في باب الحماسة [ ق 86/ 1-5( ص ص 87- 88] التي يقول مطلعها : [ من البسيط]
لولا
أميمة لم أجزع من العدم
ولم
أقاس الدجى في حندس الظُّلم
ويستمر
هذا الحضور في العصور المتوالية، وصولا إلى العصر الحديث الذي يتميز الإنتاج الأدبي
فيه بموائز ظاهرة هي:
أولا-
العناية بالكتابة الأدبية والشعرية الموجهة للأطفال بدءا من أجيال الرواد الأدباء والشعراء،
مع ميلاد مدرسة الإحيائيين، على ما نجد أمثلة له في ديوان أحمد شوقي للأطفال وكتابات
عبد القادر المازني كذلك، وغيرهما.
ثانيا-
حدوث تطور نوعي في هذا المجال تمثل في إخلاص قطاع من الأدباء والشعراء المعاصرين للكتابة
الأدبية للأطفال امتدت أزمانهم وتواصلت، من أمثال:
محمد
الهواري (ت 1939م)
كامل
الكيلاني (ت 1959م)
يعقوب
الشاروني (ت2017م)
ثالثا-
التنبه لخطر الكتابة الأدبية للأطفال بشكل عملي أسفر عن تأسيس حقل معرفي نقدي يعني
بأدب الأطفال، خدمه من الأكاديميين والنقاد وتأسيس أقسام علمية تنهض برعاية أدب الأطفال
في كليات التربية، وكليات رياض الأطفال، وكليات الطفولة المبكرة وتأسيس مراكز قومية للعناية بأدب الأطفال وتعزيز
دوره في الحياة في أكثر من دولة عربية من مثل: مصر 1988م وقطر 2012م
وهذه
العلامات جميعا تشير إلى نمط من تقارب الوعي بأهمية الحرص على حياطة البراءة بما يصونها
ويحفظها في هذا العالم الصعب!
1/(قم صل ): خطاب الأفكار
يدخل
الشاعر السيد جلال إلى عالم الحرص على البراءة من باب تعزيزها ودعم الممارسات التي
من شأنها حماية الإنسانية من خلال حماية الطفولة بخدمة عدد من الأفكار والموضوعات التي
تهدف إلى استبقاء مادة "البراءة " في النفوس الصغيرة ولتنمو بها في ميادين
الحياة ، ويتوجه السيد جلال إلى " تعزيز خطاب الفطرة" أو تعزيز خطاب توجيه
الطفولة نحو الله سبحانه، بوصفه خالق الفطرة ومهيئ الأسباب للحفاظ عليها، وتعزيز عدم
تحولها.
وهذا
التوجه نحو تعزيز خطاب الفطرة في الطفولة اتخذ مسار تعزيز الأفكار التالية:
أولا-
تعزيز فكرة الله الخالق المبدع في نفوس الأطفال، وهو ما يتجلي في أول قصيدة (قم صل)
التي يشير فيها إلى فضل الله على الإنسانية وهو ما انعكس في قوله:
جعل
الله لنا عينين
فنري
الآيات ونعبده
ولسانا
والشفتين
ثانيا-
تعزيز فكرة التعريف بما يقود إلى محبة الله تعالى خالق الفطرة السليمة وواهب البشرية
أسباب السعادة والنجاة، فيعرف الأطفال بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويفتح قلوبهم على
الأنوار الخمس (الأركان الخمس ) وغير ذلك من الأفكار التعريفية.
ثالثا-
تعزيز ما يقود إلى "تأنس" الإنسانية، والابتعاد بها بعيدا عن ميادين
"التوحش" وهو ما ينعكس في تعزيز
أفكار:
مناجاة
الله،
والتراحم
الإنساني، ومحاصرة القسوة والغلظة
والحوار
والتواصل.
2/ ( قم صل ): خطاب التشكيل الفني والجمالي
الكتابة
للأطفال نمط خاص تحكمه جملة من برامج التشكيل الفني والجمالي، وقد وفق الشاعر إلى كثير
منها مما يناسب الطبيعة العمرية والعقلية للطفولة.
وهو
ما يمكن فحصه من خلال المحاور التالية:
2/1- المعجم الشعري الشفاف
تميز
الكتابة الشعرية في ديوان (قم صل) بتوظيف معجم شعري شفاف أستطيع أن أقرر أنه لاذ بقطاع
من الكلمات الشائعة أو الأكثر انتشارا بين الأطفال.
وهذه
نقطة مهمة جدا تعين على تحقيق حزمة من الوظائف التالية:
أولا-
تعزيز الثقة لدى الأطفال من طريق شعوره بالقدرة على تحصيل المعاني وإدراكها.
ثانيا-
تعزيز درجة التحصيل والإدراك للأفكار المستهدفة والموجهة إليه.
ثانيا-
تعزيز حالة الأمان النفسي والذهني لدى شرائح الأطفال المستقبلة لقصائد الديوان.
ومع
ذلك فقد فرط من الشاعر في حدود ضيقة جدا استعمال بعض الكلمات التي يمكن أن تمثل نوعا
من الغرابة مع تقدير كون الأمر نسبيا بطبيعة الحال، من مثل : استعمال كلمة ( قفور)
أي صحارى جرداء خربة في قوله:
فلا
رده هضاب أو جبال أو قفور
ومن
جانب آخر فقد شاع وهو من أمارات التوفيق لدى الشاعر استعمال معجم شعري يناسب الطبيعة
الفكرية والموضوعية في الديوان، وهو ما يفسر شيوع استعمال ألفاظ تنتمي إلى الحقول التالية:
أولا-
حقل الألفاظ الدينية، من مثل لفظ الجلالة (الله)، والنبي، والصلاه .../ والصيام، والزكاة
، إلخ وغيرها.
ثانيا-
حقل الألفاظ المبهجة المتفائلة (المتأثرة بتوجهات الرومانسية في نسختها العربية) من
مثل الأنوار والخير، والصباح، والرحمة، والسنا، والعصافير، والجميل وغيرها.
وهذا
التوظيف لألفاظ هذه الحقول يعين على صنع التواصل مع الأطفال، هدف هذا الديوان.
2/2-
الظواهر الفنية: (الأسلوبية ) وعصرية القصيدة في ديوان: ( قم صل)
اعتمد
الشاعر السيد جلال على عدد من التقنيات الفنية، بهدف تحقيق عصرية القصيدة في هذا الديوان
دعما لمنظور المستعمل وتقربا إليه وعطفا عليه.
وقد
كانت أهم هذه الظواهر هي:
أولا- ظاهرة التكرار في مثل تكراره مقطع.
قم
فصل أكثر من مرة في القصيدة المفتتح من هذا الديوان والتكرار في الديوان يسعى إلى تحقيق ما يلي:
أ-تعزيز
أفكار الديوان ما يعرف بوظيفة التوكيد.
ب-تعزيز
وظيفة الإقناع أو الوظيفة الحجاجية للإقناع بأفكار الديوان
ج-تعزيز
الإيقاع الموسيقي من خلال ما يحققه التكرار من المتعة السمعية الموسيقية
ثانيا- التكامل مع النصوص الدينية: القرآنية والحديثية
وهو
ما يدعم أفكار الديوان، فالشاعر من مطلع الديوان حريص على التناص مع آيات الكتاب العزيز
والسنة النبوية المطهرة ، من مثل:
جعل
الله لنا عينين
فنرى
الآيات ونعبده
ولسانا
والشفتين
وهذا
المقطع الشعري يعيد استثمار قوله تعالى
﴿ألم
نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين﴾ [ سورة البلد 90/8-10]
وهذا
المثال من التناص يحقق حزمة من الوظائف المقصودة من مثل :
تعزيز
الفكرة التي يتوخي الشاعر خدمتها وترسيخها في النفوس الصغيرة من الطريق الشعري، وهو
الإيمان بالله العاصم من السقوط والانحراف.
وقد
تكافل الشاعر مع آيات كثيرة وأحاديث نبوية
صحيحة كما في "هو النبي"
ب-تعزيز
الإيقاع ومنحه درجة عالية من درجات الجلال
والمهابة التي تعين على قبول الأفكار وعدم مقاومتها.
بالإضافة
إلى إيثار أنماط تركيبية بالوضوح والمثالية النحوية
2/3- توظيف تقنيات فنية داعمة للبيداجوجيا ( أو التربية)
لجأ
الشاعر السيد جلال إلى توظيف عدد من التقنيات المعينة يهدف تعزيز الوظيفة التربية،
وكان أهم هذه التقنيات هي توظيف تقنية "الحوار"، فمن يقرأ قصيدة " الأنوار
الخمس" يقف على استثمار واضح لتقنية الحوار التي يشترك فيها الأطفال بصورة إيجابية
واستثمار
هذه التقنية يعين على تحقيق الاتصال الإيجابي مع الطفل، ويمنحه قدرا من الفاعلية في
إنتاج المعرفة، ولا يجعله سلبيا يقف عند حدود استقبالها وتلقيها فقط، مما يعزز الشعور
بالثقة والأمان وتنمية المسئولية والإيجابية.
2/ 4 الصورة الفنية
حرص
الشاعر على توظيف" التشبيه " بشكل أساسي في قصائد الديوان، والتشبيه في الكتابة
للأطفال يمنح الكتابة درجة من الأدبية بطبيعة الحال، ويأتي مناسبا للطبيعة العمرية،
والعقلية للطفولة التي تتمكن من استخلاص المعنى من خلال تتبع أطراف التشبيه ولا سيما
عند وجود أدوات التشبيه.
وقد
ألح الشاعر على استعمال نمط التشبيه (المجمل) الذي ينهض على توظيف المشبه / وأداة التشبيه
/ والمشبه به، في مثل:
مدرستي
في آخر الشارع
.....
فناؤها
ليس كبيرا أو جميلا
كالمزارع!
وبعيدا
عن " الواقعية " التي يصور فيها الشاعر حقيقة وضع المدارس والمجتمع المصري
فإنه لجأ إلى تقنية التشبيه الذي ينهض على ذكر المدرسة والفناء، وتشبيههما بالمزارع
من طريق الكاف التي للتشبيه، وهذا النمط من التصوير داعم للوظائف التربوية، بصورة
واضحة.
التحية للشاعر السيد جلال الذي يضيف صوتا جديدا جميلا
للحرص على البراءة!
أ.د. خالد فهمي
كلية الآداب / جامعة المنوفية