يسرني أن أبوح علنا بما نؤت بحمله منذ زمن فيما يتعلق
بالشاعر الرقيق والأديب الكبير والمفكر الحكيم والدبلوماسي المحنك.
لقد شع في نفسي قبس من نور، ومازال يخترق مني الحنايا
منذ أن التقيت به في الجزائر، في إحدى دورات مفدي زكريا للإبداع الشعري.
لقد شاركت في تلك الدورة بقصيدة نالت إعجاب شاعرنا من
حيث الموقف والأداة، حتى لقد دعاني، في أدب جم، من أجل المشاركة في "منتدى
المثقف العربي" الذي كان يرأسه، إلى جانب كونه سفيرا لليمن في مصر ومندوبها
الدائم لدى جامعة الدول العربية بالقاهرة.
وأذكر أني عبرت له عن تقديري للدعوة واعتزازي بالمشاركة،
لكن حدث بعد ذلك أن توفي أخي الأكبرخالد رحمه الله، فلم أستطع بحكم الفاجعة، وما
تلاها من تداعيات أن أفي بالوعد، وألبي الدعوة، وأخبرته بحصول ما فوق الطاقة
والاحتمال، غير أنه فاجأني مما لم يكن متوقعا. إنه لم يكتف بالتعبير عن المواساة،
والتذكير بما درج على قوله المعزون، وإنما أصر على القدوم في أول طائرة لمشاركته
الأسرة جميعها في هذا المصاب، رغم وضعه الاعتباري، ورغم مهامه الجسام، ورغم بعد
المسافة وطبيعة المقام. وأذكر في سياق مواساته لوالدي رحمه الله، أنه عانقه وهو
يقول صادقا: "إن كنت فقدت ابنك، فهل تقبل أن تعتبرني ابنا آخر لك.."
ولا أخفيكم أني في تلك اللحظة شعرت بسلوى، في عز البلوى.
وتذكرت حديث رسول الله (صل الله عليه وسلم): "جاء
أهل اليمن، هم أرق أفئدة، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية" صحيح
مسلم.
ولقد دأب سعادة السفير، والأديب العربي الكبير، منذ ذلك
الحين على موافاة الأسرة، والسؤال عن الحال كلما زار المغرب في مهمة دبلوماسية، أو
مناسبة ثقافية. كما دأب على استقبالي والترحيب بي كلما ذهبت إلى مصر أو اليمن، حتى
أني صرت أجد في زوجه المصون عوضا، وفي أبنائه سلوى..
قد لا يكون ضيفنا الكبير راضيا عما قلت، ولكن لاضير في
ذلك. ما كان لمثلي أن يكتم صدقا في زمن عز فيه الصديق الصادق، والإنسان الإنساني،
والشاعر الشاعري.
لذلك فإني من هذا المنبر لا أملك إلا أن أشكره على ما
فعل بنبل، وعلى ما صنع بشهامة، ليست غريبة عن اليمن واليمنيين.
إن معرفة حق النوابغ أمر تمليه الفطر القويمة، والصدور
السليمة، وهو دائما عمل الجماعات الواعية التي تعرف لعلمائها حقهم، ولنوابغها
قدرهم. لذلك فإن هذا المؤلف مهما ضم من
مقالات وشهادات لا يمكنه أن يختصر مسارا حافلا من حياة أديبنا، لكن من باب الجهر
بالحق أقول إنه الرجل الذي لم يستوحش طريق الحق لقلة سالكيه، وإنه الرجل الذي لم
يضع حاجزا لما من شأنه الانفجار.
لقد علا وتسامى، وبسط في الجو جناحيه. لم يلتقطه بطن
حوثي، ولم يشترك مع صالح في طالح. لقد نهض من على الكرسي عند أول طلقة من هواة
التقتيل، وكف عن رؤية أول حلقة في مسلسل التنكيل. بل زاد وجهر برأيه علنا لأن كل
ما فوق التراب تراب:
اهـــدم وزد في القتـــل وافعل مثلما
فعل العقيد ومثلَه ستُلاقي
وأنا التعزي الذي رفض البقا
في الذل، ليـــس الذل من أخــــلاقي
يكفي التخلف ثلـــث
قـرن كامل
ارحل بجهلك واستمع لطلاقي
لقد اختار عبد الولي الشميري طريق الحق، وذهب إلى حيث لا
يحتاج دروبا، وأذاع ما شعر به وأحس، لأن الكنز المدفون أي منفعة منه إذا لم
يستخرج، والمسؤول أي جواب عنده إذا سئل:
ماذا أقول لربي
حين يسألني
إذا بعثـــت غدا في معـشر العــرب
وجئت أحمــل من أخبــــارهم قصصا
أبطالها كل أفاك وكل غبي
وفي
الهزائم والأعداء تركلنا
فما رأيت حميا أو رأيت أبي
في الروع ما من عاد ذكرى لعنترة
واستسلم اليـوم عالي الرأس للــذنب
صعب أن يصدر مثل هذا النقد اللاذع من دبلوماسي، وشخصية
عامة، لكن عبد الولي الشميري في مثل هذه
اللحظات كان يخلع الشخصية الرسمية ليعاين خيبة الآمال المتربصة بكل شوق إلى
التغيير.
إنه غضب النادم على الخطإ في حدس نذور مرحلة، لأن
"البالون" إذا انفجر في وجهنا، فلأننا نحن من نفخه، وأعطيناه أكبر من
حجمه، فكيف نغضب إذا انفجر.
إن الشميري مخالف، وتصادمي غير هياب. إنه يخلخل الجاهز،
ويحرك الآسن، لكنه لا يعكر صفو بئر يشرب الناس منها.
وتلك صفات الآتي من البعيد بنبإ:
وجئت من سبإ يقينا
بأنباء الأوائل والأواخر
بلاد أرومة وسماء مجد
وموئل فاتح وعرين ظافر
فقلت لها زمان اللهو ولى
وذا زمن الرجوع إلى الدفاتر
كبرنا لم يعد في
القلب إلا
جراحات وتأنيب الضمائر
لقد حمل الشاعر قصيدته مسؤولية الاشتباك مع الواقع الخاص
والعام، واختيار التحول من حسية الحب، إلى روحانية الرب. لأن روحانية المنير
بطبعه، مهما اثاقلت عليه ظلمة الأعراض، فإنه ينزع إلى عكس النور، ابتغاء لحظة
للرضا، أو مصالحة للوجود.
إن المنجز الشعري لعبد الولي الشميري لبنة في صرح وعي
بوظيفة الكلمة، ودورها في التحول وتأكيد التجاوز.
إن عنف المكان العربي، لا يمكن إلا أن يفتح الذات على
أفق الغربة، لذلك لا تعجب إذا اتشح معجم الشاعر بالسواد، لتجسيد اللحظة المأتمية،
المودعة في موكب جنائزي من تاريخنا، لذلك أيضا لا تعجب إذا استرخص كل غال وصار
معروضا للبيع:
من يشــتري
القلب إني بائع
قلبا
وقاتل من شياطين الهوى حبا
من يشتري القلب والآهـات تعـصره
والـحزن حــين غدا إخـــلاصه ذنبا
نـدمت
والحر لا يقضي
شبـيبته
مع الصبا والصبايا هائما صبا
الوحـــش أوفى
من الإنسـان تعرفه
ليثا، ولكنه لا يشبه الكلبا
لا يأكــل
الذئب من أبناء
جلدته
لو صار إنسان في قومه ذئبا
فهل استأنس الشاعر بالذئب إذ عوى
هل في زمن السياسوية واغتنام اللحظة المواتية مال إلى
العزوف عن المؤسسات والسقوط في الصعلكة الموقفية.؟
لست أدري، وكل ما أدريه، انني لا أدري الحال التي انتهى
إليها الشاعر، لأن الإبداع أشبه بالجبل الثلجي الغائر في البحر لا تظهر منه إلا
الذؤابة، أما عرضه وما به من عتاد، فدونه خرط القتاد.
ولعل خشونة اليومي، وقبح الواقع، وانكسار الزمن، قد يكون
وراء ارتداد الشاعر أحيانا إلى الماضي باعتباره مأوى استجمام من قسوة الحياة،
ووعاء لتتخلق في رحمه الصور. لذلك لجأ إلى التراث في غير مناسبة لدفق مزيد من
الثراء في شرايين القصيدة، وإيقاظ الحقائق الهاجعة في قلبه.
لقد عرف الطبقة الحقيقية لصوته، فأدى صادقا ما اعتمل في
داخله، لذلك ف"أوتار" الذي وضعه عنوانا لأحد دواوينه قد يوحي بالعزف على
أوتار العود كما يوحي بالعزف على أوتار القلوب، والأوتار الحساسة. لكنه قد يعني
أيضا أوتار الصوت العالية في زمن خفت صوت من كانوا في السلم يملأون الدنيا ويشغلون
الناس.
كما أن عنوان "أزهار" الذي وضعه لديوانه
الثالث لن يكون قاصدا به الأزهار البودليرية، تلك التي يسترعي الشوك فيها العين
أكبر من الأكمام والألوان والعطور.
متعك الله بالصحة
والعافية ومزيدا من التوفيق والعطاء يا شاعرنا الكبير الدكتور عبد الولي
الشميري، ونشكر لك الفضل في العمل على تهذيب الحواس وصقل النفوس لإدراك سر الحياة
المنبهم في نقطة الدم، وسكرة المدى.
دة. لويزا بولبرس
جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس - المغرب