لا أكاد أذكره
ذلك اليوم من التاريخ الميلادي في عمر السنين؛ إلا أنه كان يوم السبت الأول الذي اصطحبني
فيه أخي بعد التحاقه بالصف السادس.
خوف ورهبة من
مجهول لم أتعرفه إلا ممن سبقني ببضع سنوات إلى مدرسة الوحدة المجمعة بعد انتقالي من
مسقط رأسي في نجع الجزيرة بالقرب من شاطئ النيل إلى بوابة العائلة حيث منزلنا في الجهة
الأخرى من السكة الحديد.
حاول أخي صباح
يومئذ كعادته أن يبعث فيً اطمئنانًا وحماسًا نقلته إليً حرارة حديثه المقاوم نظرات
أندادي المثبطة والشامتة في آن، والذين حظوا يومئذ بالإفلات من المدرسة، وأفلحوا في
أن يتمايزوا عن عيال المدارس..
خرج بعض هؤلاء
ممن أفلح واستيقظ باكرا ليشارك مع آخرين عبر المسافة الممتدة على الجسر الترابي المتعرج
بين الغيطان والبيوت في إنشاد أرجوزة تتردد في الغدو والرواح (عيال المداااارس ياكلوا
.... يااااابس)! [لاحظ أن المدود الصوتية كانت مقصودة لزلزلة النفس واضطراب خواطرنا
نحو المجهول] كان بعض هؤلاء لا يتجرأ إذا كان واحد من التلاميذ في عصبة من أنداده،
أو مع من هو أكبر منه من زملائه أن ينشد هذه الأرجوزة البغيضة وهو يشير إليه بجوامع
يده أو بعض أصابعه التي تكاد تلامس عين المسكين من التلاميذ تهكما وسخرية وسط ضحكات
متقطعة لا تسمع منها إلا بعض هاءات تضافرت مع وقع حرف العين الذي يصك سمعك.. (هع هع
هع)!
أجدني لم أزل
مقاومًا بفعل أخي الذي يهمس لي طوال الطريق منذ أوصته أمي بي وهي تودعني على أول البوابة
التي تشاطر باب بيتي نصف مساحته على الجسر (سيبك منهم).
لم تفلت أمي ذلك
الصباح من لوم عمتي الصغرى لها بأنه ما الداعي لما يجعلنا نصحو في عز البرد للمدارس
التي لا طائل منها، بينما تلقى ردا قاصفا من أختها الكبرى التي تذكرها بأهمية العلم
وأن جدها الأكبر كان عالما... ثم أسمعها تدعو لي ولأخي (ربنا يحزمك إنت واخوك، عديلة
قدامك!).
حرارة راحة يده
اليسرى التي طوقت رقبتي في معظم الرحلة أسهمت كثيرا في تبديد ملامح الخوف التي لازمتني
بين حين وآخر حتى أسلمتني إلى فناء المدرسة المتسع.
المدرسة على مساحة
شاسعة مفتوحة لا يحدها إلا سور من الجهة الغربية المطلة على حرم ترعة كبيرة ناحية الطريق
الرئيس، (طريق مصر أسوان)، بينما تخلو في جهاتها الثلاثة الأخرى من حدود إلا أن تلتمس
المزارع وبعض البيوت الفاصلة. الوحدة المجمعة كانت تضم مشفى مجهزا ومكتبا للبريد وبعض
إسكان لائق للمغتربين من الأطباء ومعاونيهم والمعلمين المغتربين.
أذكر أنها كانت
فصولا معدودة بقدر فصلين اثنين لكل صف من الأول حتى السادس، (أولى أول) للنابهين المتقدمين
الذين تبدي ملامحهم بعضا من ذلك متى تم تقسيم التلاميذ أول مرة في أرض الطابور، أو
وفق توصية فوقية من قبيل (خلوا عيالنا مع بعض) بقطع النظر عن ملامح زائفة لا يقطعها
إلا ترتيب الأبجدية في سجل التلاميذ وفق الأعداد المحددة... كان أخي قد طمأنني قبل
أيام أنني في فصل أولى أول، ونبه عليً غير مرة
هو وعصبة من تلاميذ العائلة الذين سبقوني إليها من زملائه وأولاد خالتي بألا
أفرط مهما يكن في المقعد الأول من الصفوف الثلاثة المكونة تشكيل الفصل المختلط.
في منتصف الحصة
الثانية من أول يوم جاءني أخي ليجدني قابعا ثالث ثلاثة بعد اثنتين من زميلاتي نحو الحائط
في الدكة الخلفية من الجهة اليمنى حين تطأ قدمك فصل أولى أول.