مجتمع بوست | اللبناني الغامض "فارس الشدياق".. الحلقة المفقودة في تاريخ السخرية العربية
في مثل هذه الأيام من عام 1850
أصدر الكاتب اللبناني أحمد فارس الشدياق كتابه "الساق على الساق في ما هو
الفادياق" وبهذا الكتاب الفريد الذي يضعه البعض في مصاف كتابات سويفت ورابليه
وسرفانتس ، أعلن الشدياق انتماءه إلى قبيلة أدبية عربية شبه منقرضة ، وهي قبيلة
الأدباء الساخرين الذين أدركوا أنه لو استعمل الناس الرصانة في كل حال ، والجد في
كل مقال ، لكان السفه الصراح خيراً لهم ، حسبما قال "الجاحظ" الأب
الروحي لأبناء هذه القبيلة ، فقد خرجوا جميعاً من عباءته محاولين تقويم المعّوج
واصلاح المائل ، فتناولوا بلسانهم الحاد من حاد ، كاشفين ببصيرتهم النافذة الفرق
الشاسع بين ما هو كائن ، وما ينبغي أن يكون.
ولد الشدياق عام (1804-1887) في
قرية "الحدث" القريبة من بيروت ، في أسرة ميسورة كان معظم أفرادها
يعملون في حاشية الأمراء الشهابين ، وعندما ولُد "أحمد فارس" كان والده
يوسف الشدياق يعمل في خدمة الأمير حسن الشهابي ، وتوفي هذا الأمير فجأة عام 1808م
فخلفه الأمير بشير الشهابي الذي لم يكن على وفاق مع الشدياق الأب ، فهجر الأخير
الخدمة مغضوباً عليه وهاجر إلى قرية قريبة تسمى "عشقوت" وهاجرت معه
الأسرة كلها.
أحمد فارس الشدياق ، هو أحمد
فارس بن يوسف بن يعقوب بن منصوربن جعفر شقيق بطرس الملقب بالشدياق بن المقدم رعد
بن المقدم خاطر الحصرونى المارونى من أوائل الأفذاذ الذين اضطلعوا برسالة التثقيف
والتوجيه والإصلاح في القرن التاسع عشر غير أن معظم الدراسات التي تناولته عنيت
بالجانب اللغوى والأدبي وأهملت الجانب الإصلاحى ولم ينل ما ناله معاصروه من
الاهتمام من أمثال ناصيف اليازجي (1800-1871) ورفاعة الطهطاوى (1801-1873) وعبد
القادر الجزائري (1807-1883).
بالرغم من كونه أحد أبرز المساهمين
في مسار الأدب العربي ومن أسبقهم. ماروني بالولادة، وتحول أكثر من مرة في أكثر من
طائفة في المسيحية إلى أن أستقر على الإسلام. عاش في إنجلترا ومالطة ورحل أيضا إلى
فرنسا.
يعد أحمد فارس الشدياق أحد أهم
الإصلاحيين العرب في عهد محمد على وله منهجه الإصلاحى الخفى الذي يبدو فيه أنه فضل
التورية والترميز على التصريح والإشهار وذلك لما كان يحويه منهجه من انتقادات
لاذعة للقيادات الرجعية ولخوفه من أن يدان من قبلها أو تحرق أعماله ويظهر هذا في
كتابه (الساق على الساق فيما هو الفارياق) والذي يعد بمثابة الرواية العربية
الأولى على الإطلاق.
طالع نحس النحوس
يسخر الكاتب من نفسه بسبب
الانقلاب الدراماتيكي الذي وقع لأسرته بعيد مولده، معتبراً أنه كان "طالع
نحس" انقلب حال الأسرة بقدومه من اليسر إلى العسر، يقول الشدياق: "وكان
مولد الفادياق (وهو الاسم الذي نحته الكاتب لنفسه) في طالع نحس النحوس والعقرب
شائله بذنبها إلى الجدي ، وكان والداه من ذوي النباهة والصلاح ، لكن بئر فضلهما
نُزحت عندما أهّل بطلعته ولذلك لم يعد في طاقتهما أن يبعثاه إلى الكوفة أو البصرة
ليتعلم العربية ، وإنما جعلاه عند مُعّلم كُتّاب القرية التي سكنا فيها، وكان المُعّلم المذكور مثل
سائر معلمي الصبيان في تلك البلاد، لم يُطالع مدة حياته سوى كتاب "الزابور"
وهو الذي يتعلمه الأولاد هناك لا غير، وأجارك الله من كتاب غامض زادته إبهاماً
وغموضاً ركاكة ترجمته إلى العربية ، بحيث أصبح فهمه شيئاً دونه طاقة البشر".
واحترف الشدياق بعد تخرجه من
الكُتّاب مهنة النساخة، وظل يعمل بها زمناً طويلاً رغم ضيقه بها آنذاك ، غير أنه
اعترف في مرحلة لاحقة من حياته أن حرفة النساخة أفادته كثيراً في توسيع مداركه
الأدبية ، خاصة وأن الكتابة الساخرة تحتاج إلى ثقافة واسعة وعقلية خصبة ، تمكن
صاحبها من استقصاء جوانب النقص والتناقض المربكة -ومن ثم المضحكة- في الواقع .
والطريف هنا أن الشدياق الذي لم
يقنع بحرفة النساخة ، حاول ذات مرة أن يجرّب حظه في مهنة أخرى فاشترى حماراً وعمل
بائعاً متجولاً لبعض الوقت ، لكنه سرعان ما عاد إلى حرفة النسخ بعدما فشل في هذه
التجارة فشلاً ذريعاً ، وراح بعد ذلك يتردد على مجالس الأدباء، كلما تيسر، ولسان
حاله قول الشاعر الظريف:
شُغلنا بكبر العلم عن مكسب
الغنى
فصـار لنا حظ من العلـــم و
الفقــر
المتنبي في مالطة
وعندما ضاقت بالرجل سبل العيش في
موطنه سعى في مناكبها وهاجر إلى مصر ، حيث أقام مدة تسع سنوات ، وتتلمذ على يد
رفاعة الطهطاوي وإن اختلف معه في نقد الحياة الغربية فيما بعد، ومنحه الطهطاوي
فرصة عمره فاستكتبه في صحيفة "الوقائع المصرية" بانتظام ، وهكذا أصبح
للشدياق مورد رزق ثابت ومنبر صحفي هو الأوحد في زمانه ، فلمع اسم الرجل في أوساط
معاصريه كأديب ثقيل الوزن خفيف الظل ، وهما ميزتان قلما تجتمعان في كاتب واحد ،
كما يؤكد د.محمد أحمد خلف الله أحد مؤرخي حياة الفارياق الحافلة .
ورغم اعتراف الكاتب بالجميل لمصر
وأهلها، فهي في قوله "بلد الخير ومعدن الفضل والكرم" إلا أن ذلك لم
يمنعه من التعريض بالمصريين أحياناً ، الأمر الذي يعتبره الناقد الدكتور شوقي
المعاملي نوعاً من "التهكم للتهكم" أقرب إلى التشنيع الظريف، يقول
الشدياق عن بدانة المصريات: "ومن خواص مصر أن ما يذهب من أجسام رجالها يدخل
في أجساد نسائها ، فترى الإناث فيها سماناً مثل القطط والذكور نحافاً كالحشف ، ومن
غرائبها أن نساءها يمشين تارة على الأرض كسائر النساء ، وتارة على السقف وعلى
الحيطان" .
ويتطرق الشدياق إلى النفوذ
الأجنبي في مصر آنذاك ، وما أشبه الليلة بالبارحة ، وكيف أن
"للبرنيطة"سطوتها وهيبتها إلى الحد الذي جعله يتمنى لو انقلب طربوشه –بقدرة
قادر- إلى برنيطة، فلم يغن عنه التمني شيئاً ، فما دام رأسه "مطربش"
فإن طرف دهره "مطرفش" لا يرى ، بينما لو كان أجنبياً يلهج بالتركية أو
الفرنساوية لكان له شأن آخر حيث .. الذبابة "تستصقر" والناقة تستعبر
والجحش يستمهر" .
ودفعته روحه الفضولية رغم زواجه
بإحدى بنات أسرة شامية معروفة ، إلى ترك مصر في رحلة جديدة استقر به المطاف في
نهايتها –إلى حين- في جزيرة مالطة، وهناك امتهن مهنة فريدة من نوعها أسماها ساخراً
"حرفة إصلاح البخر" والحقيقة أن مهنة الرجل كانت تعليم اللغة العربية
للراغبين من أهل الجزيرة في مدارس تابعة للبعثات البريطانية ، ولكن الشدياق يطلق
على عمله تلك التسمية زاعماً أن من اختاره للقيام بهذه المهمة حذّره من أن
"أهل هذه الجزيرة قوم بُخر لا يطيق أحد أن يفهم شيئاً منهم إذا تفوهوا لشدة
بخرهم ، وقد سمعت أنك قادر على علاجهم ولك المكافأة" غير أن الشدياق لم يحصل
على أي مكافأة بعد أن فشل في مهمته متعللاً بأن المستحيل على هؤلاء القوم
المنتسبين إلى "ذاهول بن جاهول" فهم لغة المتنبي ، وأن تعليم اللغة
العربية في مالطه ، لا يفترق عن الأذان في مالطه.
وبدأ الشدياق في هذه الجزيرة
خطواته الأولى نحو الكتابة الأدبية، بعد أن كان نشاطه حتى ذلك الوقت قاصراً على
كتابة المقالات الصحفية فحسب ، وفي عام 1838م أصدر أول كتبه المهمة تحت عنوان
"الواسطة في أحوال مالطة" وتناول الكتاب بالشرح والتحليل بعضاً من عادات
وتقاليد المالطيين ، ووصفاً شاملاً للجزيرة جغرافياً واجتماعياً و سياسياً إبان
تلك الفترة، ويجمع النقاد على أن لهجة التهكم الصريح في الكتاب ترجع إلى عدة
أسباب أهمها اعتزاز الشدياق بعروبته ، الأمر الذي أوقعه في متاعب مع مسئولي
البعثات البريطانية ، فما كان من الشدياق وهو رجل هوايته التحدي إلا أن شد الرحال
مع زوجته مهاجراً – وغازياً- إلى لندن.
عندما تتناطح الهمم
وفي بلاد الضباب سعى الشدياق
حثيثاً ليحصل على وظيفة في أحدى الجامعات البريطانية لكنه لم يوفق ، فأرسل زوجته
إلى الشام حيث أقامت لدى أقاربها ، وشد هو الرحال مجدداً إلى باريس ، وهناك عاش
حياة بوهيمية غامضة متفرغاً لكتابة " الساق على الساق" أبرز نص أدبي
عربي في القرن التاسع، والكتاب الذي مازال ممنوعاً – حتى الآن- في عدة دول عربية، لا لشئ إلا لأنه كما يصفه عزيز العظمة "كتاب حرية" .
ينقسم "الساق على الساق"
إلى جزئين يضمان أربعة أقسام، يحتوي كل منهما على عشرين فصلاً ، تتضمن آراء
الشدياق في كل شئ، من الأدب إلى السياسة
مروراً بالمرأة و الدين وحتى الحضارة الغربية ، التي نظر لها الشدياق لأول مرة في
الكتابة العربية نظرة نقدية بلا دونية أو انبهار ، وكل ذلك في أسلوب قارص لاذع
وصفه الإمام محمد عبده بأنه "أسلوب غريب قلما فطن إليه الأدباء".
ومن ذلك ما كتبه الرجل تحت عنوان
"في لا شئ" عن المستشرقين الأوربيين قائلاً: "إن لهم باعاً طويلاً
في التاريخ، فقد يعرفون مثلاً أن أبا تمام والبحتري كانا متعاصرين ، وأن المتنبي
كان متأخراً عنهما ، ولكنهم لا يكادون يفقهون حديثاً في التفريق بين جزل الكلام وركيكه
، ولقد شاهدت وسمعت بنفسي محاضراً شيخاً جليلاً في أكسفورد يقرأ على طلبته هذا
البيت لأبي تمام:
همـة
تنطــح النجــوم وجـد
ألف الحضيض فهو حضيض
"ويشرح الشيخ – الجليل- هذا
البيت قائلاً بمنتهى الحكمة والوقار: النطاح يا أبنائي مختص بذوات القرون ، كالثور
والتيس والوعل ونحوها ، وقد ورد ذكره في العهد القديم مرات كثيرة، ويمكن أيضاً أن
ينسب إلى غير ذات القرون ، فقد روى "ليناوس" الذي قسم جنس الحيوانات إلى
سبعة أقسام أنها يمكن أن تتناطح بجباهها الجرداء وحدها ، وهكذا يمكن أن تفعل الهمم
أيضاً.
"أما النجوم فمعروفة وقد
كانت لعرب تهتدي بها في الأسفار ، وفحوى البيت هنا أن الممدوح فارع القامة بحيث أن
رجليه على الأرض وجبهته في السماء ، وكانت العرب تعتبر ذلك من معاني العزة والمنعة
وعلو الهمة ولو كانت جرداء".
على هذا المنوال يلفق شيوخ
اكسفورد من المستشرقين المعاني العربية التي لا يعرفونها في رأي الشدياق، كعادة
الإنجليز المتهافتين على الشهرة والنباهة ، فمن يعرف منهم يضع كلمات من العربية ،
ومثلها من الفارسية والتركية ، يصنف كتاباً ويحشر فيه كل هذه اللغات أخلاطاً ليوهم
مواطنيه أنه يقف مع شكسبير رأساً برأس، أو على الأقل يضع نفسه في عداد
"الشكاسبة" الصغار.
ويجول الكاتب ، بمنتهى الحرية
والاقتدار ، في كتابه بين فنون الترجمة الذاتية والقص والشعر والمقامة، ليصوغ كل
هذه الفنون في صنعة أدبية محكمة، ومن أطرف فصول الكتاب الفصل الذي يتحدث فيه عن
رجال الجمارك الفرنسيين في ميناء مرسيليا حيث يقول: "وعندما عزم الفارياق على
السفر إلتمس من خمسة قناصل – واحداً واحداً- أن يشّرفوا جوازه بختومهم ، فلما وصل
إلى مرسيليا أخذ صندوقه إلى ديوان المكوس (الجمارك) وراح المكاسّون يفتشون في
كراريسه ليعلموا ما فيها، فقال لهم: أنا ما هجوت سلطانكم ولا مطرانكم فلم تفتشون
كراريسي؟ ولكن أحداً منهم لم يفهم عنه، فلما فرغوا أشاروا أن اقفل صندوقك فثلج
صدره ثم انبرى واحد منهم يمسح بيديه على جبينه من التعب ، فظن الفارياق أنه
"يتبرك" لكونه وجد الكراريس مكتوبة بخط غريب ، كما يتبرك كل الفرنسيين
بالقُسس لرداءة خطهم" .
ويشير الباحث اللبناني كرم الحلو
إلى صعوبة أسلوب الشدياق في "الساق على الساق" فقد أودع فيه صاحبه آراء
كاشفة الصراحة ، لكنها فوق طاقة ما يحتمله عصره من الصراحة ،فكان لابد أن يخفي
الكاتب سخريته عن معاصريه خلف أقنعة عديدة ، من الرمزية والتورية والتلاعب
بالألفاظ ، مما يجعل من الصعب فهمها إذا لم يتتبع المرء دقائق حياة المؤلف ، ولم يتفهم
دوافعه وأحاسيسه ، للولوج من ظاهر العبارة إلى باطنها الحقيقي، حيث تنفجر شخصية
الشدياق بكل ما ازدحم فيها من مؤثرات ومعارف.
ومهما يكن من أمر فإن الشدياق
ساخر مطبوع، كما يقول عباس العقاد في "ساعات بين الكتب" فهذا اللبناني
المشاكس المغامر كانت سخرياته دائماً نتاج حسن أصيل بالتناقض بين طموحات البشر وإمكانياتهم،
بين المثال والواقع، أو حتى بين العقل والقلب، ولهذا كانت سخرية غير مصنوعة بل
إنها تبدو أحياناً غاية في ذاتها، فالرجل من هذا الطراز الذي لا ينبغي أن نركن في
فهمهم إلى قاعدة مقررة، بل ينبغي أن نترقب
منهم المفاجآت والغرائب في كل لحظة.
وأغلب الظن أن معظم الكتاب
الساخرين المعاصرين قرأوا صاحب "الساق" جيداً وتعلموا منه، فالرجل – مثلاً-
هو أول من نحت لفظ "الحنجور" لوصف الظواهر الثقافية الصوتية في عصره،
وهى نفس الكلمة التي استعملها كاتبنا الساخر الكبير محمود السعدنى تحت بند
"الحنجورى" للتعريض ببعض الفصائل الكلامية التي أفرزها اليسار المصري
والعربى فى الستينات من القرن الماضي.
وعلى الرغم من ذلك فإن أحداً من
هؤلاء الساخرين المحدثين لم يكتب عن الشدياق، ليضعه في مكانه الذي يستحقه باعتباره
حلقة الوصل المفقودة في تطور السخرية الأدبية العربية، فبين الجاحظ والتوحيدي – من
جهة- والمازنى ومحمد عفيفي ومحمد مستجاب في المقابل، هناك ما يشبه "الثقب
الأسود" الذي أهمله النقاد والمؤرخون إهمالاً مريباً ،ولكن هذا التجاهل النقدي
لا يسلب الكاتب حقه، مع أن بعض كتبه مازال مخطوطاً لم يطبع حتى هذه اللحظة، فهو الذي
أستخلص الكتابة العربية الساخرة من كل سوء، فإذا هي خالية من لجاج القرن التاسع عشر،
ومن شوائب المحسنات والجناس والسجع ورتابة المقامات، وجعلها قفرات عقل متحرر من
قيود الحكمة سابقة التجهيز.
واستقر المقام بالشدياق هي نهاية
حياته بمدينة اسطنبول، حيث عمل في ديوان الترجمة التركي، واصدر صحيفة تحت اسم
"الجوائب" حتى استراحت "الساق" أخيراً من التجوال، فتوفى عام
1890 عن 86 عاماً، ونعاه معظم معاصريه الكبار باعتباره "فارياق" الأدب العربي
الأول والأخير.