ناصر صلاح يكتب: روح الشعر "جيفارا مات".. وأحمد فؤاد نجم
دائماً ما كنت أتحاشى الولوج إلى دهاليز مدارس النقد المختلفة،
وأحرص على ألا أتأثر بها عند تناولى لإحدى النصوص التى تعجبنى وتمنحنى مفاتيح سحرها،
كنت أتعمد نسيان كل ما قرأته من طرق وأساليب النقد، ليصفو ذهنى لاهتمامى بالمقام الأول
والهدف المنشود وهو الوقوف بين سطور المعانى والتمتع برحيق الإبداع وعطر حروفه.
وكان من ضمن اهتماماتى أيضاً على هامش النص سمات شخصية كاتبه،
لإيمانى بأن النص قد يكون سيرة ذاتيه للكاتب، أو على الأقل يتسم ببعض سيماته ويوضح
بعض ميوله ويكشف عن هوايته كما وضحت فى مقالات عدة سابقة.
إلا أننى هنا ورغماً عنى فى نصٍ تمنيت كثيراً أن اتناوله
كتابةً برغم أننى تحدثت عنه فى عدة لقاءات أدبية عامة وخاصة خلال سنوات سابقة، بل تمنى
صاحبه - غفر الله له - أن أكتب عن النص فى حياته، بعد أن استمع بالصدفة إلى حديث لى
عنه فى إحدى معارض الكتاب .. هنا أجد نفسى مرغماً أن أستعير عبارة هامة من إحدى مدارس
النقد ألا وهى "موت المؤلف".
نعم أود هنا أن أتعامل مع عبقرية الموهبة، وجمال الحرف، ودموع
العبارة، وحزن المشاعر، بعيداً عن الجدل حول شخصية الكاتب ومواقفه الشخصية والسياسية
المختلة والمتقلبة قبل وفاته، وخاصة بعد الانقلاب على ثورة يناير، والتى أملك أدلة
عن لسانه أيضاً تضحض ما قاله فى أيامه الأخيرة.
فالمؤلف هو الرائع - أحد نوابغ شعر العامية فى مصر- أحمد
فؤاد نجم، والمكتوب فيه النص هو أحد رموز المقاومة فى عصرنا الحديث الثائر "جيفارا"،
والنص هو "جيفارا مات" الذى مما لا شك فيه أن جميعنا استمع إليه بغناء ولحن
الرائع الشيخ إمام وغيره من فنانى المقاومة.
أما عن النص فهو رثاء من شاعر ثائر لمناضل ثائر، ناضل من
أجل الحرية فى بقاع شتى، مع أيدلوجيات وأديان شتى، ثائر خلع ثوب الوزارة بعد جهاد فى
تحرير وطنه، وترك جلسة المكاتب الفاخرة وارتدى ثوب المقاومة من جديد ليموت وهو يتزين
به ويتوج بالطلقات التى مزقته وأسآلت منه الدماء ليصطبغ باللون الأحمر.
فهل كان الرثاء بمستوى قامة الثائر، وهل كان الرثاء نموذجاً
معتاداً معلباً من شعر المناسبات؟ أم أنه تميز وقدم لنا الجديد؟ تعالوا نعيش لحظات
مع " جيفارا مات":
جيفارا مات .. جيفارا مات
أخر خبر فى الراديوهات
وفى الكنايس والجوامع
وفى الحوارى والشوارع
وع القهاوى وع البارات
جيفارا مات.. جيفارا مات
تأملوا بل تخيلوا الصورة، وكأن بائع جرائد يصيح فى الطرقات
بين المارة " اخر خبر.. اقرا الحادثة.. اقرا......"، فالجو العام للنص يبدأ
وكأن ما حدث صدمة وكارثة، يتحدث عنها الجميع بحزن فى كل مكان، ومن كل أيدلوجية وفكر
ودين، فالرجل كان يقاوم الظلم مع كل مظلوم أينما وجد.. لذا تنعيه الكنائس والمساجد
والحارات والشوارع والقهاوى والبارات، ينعيه الفاجر والبار والكافر والمؤمن، فليس هناك
ما يمنع من نعى فارس ومقاوم رغم أن المشهور عنه إلحاده، لكن الأشهر شجاعته ونضاله فى
مقاومة الظلم والطغاة.
وتأملوا قول نجم "اخر خبر فى الراديوهات" الأكثر
انتشاراً عن التلفاز فى هذا الوقت، ليصل بالخبر إلى المعدمين وإلى القرى والأزقة.
جيفارا مات.. جيفارا مات
وامتد حبل الدردشة والتعليقات
مات المناضل المثال
يا ميت خساره ع الرجال
مات الجدع فوق مدفعه جوَّ الغابات
جسد نضاله بمصرعه ومن سكات
لا طبالين يفرقعوا ولا إعلانات
مازال الحديث بحزن وآسى عن مصرع جيفارا الذى كان مثالا للنضال،
ونموذجاً نادراً من الرجال، فقد مات حاضناً مدفعه ليقدم الدليل على رجولته وشجاعته،
دون ضجيج إعلامى أو كدابى الزفة ومدعى الوطنية والصلة والقرب من البطل وقت رحيله او
كاتبى المذكرات.
وتأملوا قول نجم " واتمد حبل الدردشة والتعليقات"
وكأن الحديث حبل يلقيه كل منا للأخر ليضيف إليه ويلقى به إلى أخر وهكذا، بل أن نجم
أراد أن يقول من هذا المعنى أن الحكايات كثيرة وشجية ولا تنتهى عن هذا البطل.
ما رأيكم .. دام عزكم يا انتيكات
يا غرقانين فى المأكولات والملبوسات
يادفيانين ومولعين الدفايات
يا محفلطين .. يا ملمعين.. يا جمسينات
يا بتوع نضال أخر زمان فى العوامات
ما رأيكم .. دام عزكم.. جيفارا مات
لا طنطنه ولا شنشنه
ولا إعلانات واستعلامات
الصوره هنا لا تحتاج إلى شرح وإنما تحتاج الى تصفيق حاد لروعة
الشاعر عندما ينتقل من الخارج إلى الداخل ومن العام إلى الخاص، من جنازة فرد إلى جنازة
وطن، من جنازة مناضل بحق إلى جنازة مدعى النضال، عندما ينتقل من ألم فقد بطل إلى ألآم
فقد الكرامة، عندما يقارن بين بطل وبين عاهات تدعى البطولة فى وطن منكسر، بين من مات
على مدفعه وبين الغرقى فى التفاهات والحفلطة والغرام، الدفيانين ومولعين الدفايات،
هذه المقارنة التى بدأت بتساؤل لا يخلو من السخرية وتنتهى به ولكن السخرية تمتد بامتداد
حبل الدردشه والتعليقات.
ثم ينتقل نجم إلى صورة أعدها من أبدع ما كتب فى شعر العامية
تعبيراً وتركيباً ووصفاً وألماً:
عينى عليه ساعة القضا
من غير رفاق بتودعه
يطلع أنينه للفضا
يزعق ولا مين يسمعه
يمكن صرخ من الألم
من لسعة النار فى الحشا
يمكن ضحك أو ابتسم
أو ارتعش أو انتشى
يمكن لفظ أخر نفس
كلمة وداع لاجل الجياع
يمكن وصية للحاضنين القضية فى الصراع
صور كتير ملو الخيال
وألف مليون احتمال
لكن أكيد ولا جدال
جيفارا مات موتة رجال
تعالوا نعيش تلك اللحظات التى تمثل فيها الشاعر دور الأم
الحزينة المصدومة فى موت ابنها، أو صورة الأب المذهول لما حدث أو الإبن الذى يُتّم
بفقد أبيه، ويتسائلون فى حزن وصراخ ودموع: كيف مات؟ هل كان وحده ولم يعينه أحد؟ وماذا
قال قبل موت؟.
تأملوا وصف نجم لأحوال جيفارا وقت موته:
1- وحيد .. من غير رفاق بتودعه
2- يئن : يطلع انينه للفضا
3- يصرخ: يزعق ولا يسمعه احد
4- يمكن صرخ من الآلم من لسعة النار فى الحشا
5- يمكن ضحك أو ابتسم أو ارتعش أو انتشى
6- يمكن ترك وصية للثوار والمساكين الجياع المقهورين
إنها تخيلات وتساؤلات هذيان المحب لمن فقده، ثم يجيب نجم
عن تساؤله الأخير على لسان جيفارا وكأنه يلقى بيان وأمر لا وصية:
يا شغالين ومحرومين
يا مسلسلين رجلين وراس
خلاص خلاص.. مالكوش خلاص
غير بالبنادق والرصاص
ده منطق العصر السعيد
عصر الزنوج والأمريكان
الكلمه للنار والحديد
والعدل أخرس أو جبان
هكذا لخص نجم الوصية والقضية وأنهى الجدال والحوار فالحديد
لا يفله إلا الحديد.
صرخة جيفارا يا عبيد
فى أى موطن أو مكان
مافيش بديل ما فيش مناص
يا تجهزوا جيش الخلاص
يا تقولوا ع العالم خلاص
مع نهاية النص ووصايا نجم على لسان جيفارا، أبدأ من جديد
عندما أجد النص مؤرخاً بعام 1968 أى بعد النكسة بعام، أبدأ من جديد لأقول وكلى يقين
أن الجنازة لم تك ليجفارا فقط، بل جنازة جيفارا تليق به وبقدره وقيمته، لكن على التوازى
كانت هناك جنازة أخرى أرادها نجم وأكدها الشيخ إمام بلحنه الجنائزى البارع وسخريته
فى نطقه لبعض أبيات نجم وهى جنازة المنكوسين المحفلطين غرقى الشراب والمأكل والملبس
والغرام مع العاهرات بعوامات الكبار الذين ومازلنا نأكل من يدهم الحنظل ونتجرع المرار
إلى أن يأذن الله ويرزقنا بجيش الخلاص.