الأخوان "رايت".. مخترعا أول طائرة في التاريخ لم يحصلا على أي "شهادات دراسية"
الأخوان
"رايت" هما مخترعا أول طائرة في التاريخ، ورغم أنهما تركا المدرسة مبكرا
دون أن يحصلا على أي "شهادات دراسية، فقد تمكنا من تحقيق حلم الإنسان في
الطيران، وهو الحلم العزيز الذي بدأ بـ29 دولارا!
وتمكن
الشقيقان غير المؤهليّن دراسيا من تحقيق ما عجزت عنه كل الجامعات الأوروبية
والأمريكية وقتها، وفتحا بنجاحهما في هذا المجال آفاقا جديدة للبشرية، على الرغم
من "سخرية" الجميع منهما باعتبار أنهما كانا يحاولان "فعل
المستحيل".
وُلد الأخ
الأكبر ويلبر رايت في 16 أبريل 1867 بمدينة كيتي هوك في ولاية نورث كارولاينا،
فيما ولد أورفيل "الأصغر" في 19 أغسطس 1871، وتدرجا في التعليم الأوليّ حتى
وصلا إلى مرحلة التعليم الثانوي، لكنهما تركا المدرسة بسبب الحاجة المادية دون أن يحصلا
على أي شهادات دراسية، من أجل مساعدة الأسرة في مواجهة نفقات المعيشة.
فكرة "خرافية"
بدأ
الأخوان "رايت" حياتهما العملية في عدة مهن، حيث اكتسبا المهارات
الميكانيكية الضرورية من خلال العمل لسنوات طويلة في متجر
لبيع الدراجات والمحركات الصغيرة والآلات الأخرى، ثم افتتحا ورشة صغيرة لإصلاح المحركات،
وكان كل طموحهما ينصب على الطيران، كفكرة بدت "خرافية" للناس، وهي من
بنات شابين لم يتمكنا من إنهاء تعليمهما!
ومنذ
صباهما المبكر، أخذا يعدان العدة بخطى ثابتة وبالكثير من التصميم والمثابرة، للارتفاع
في الهواء بجسم ذي أجنحة، تكون قوة الرفع فيه مستمدة من محرك، وهي أولى المحاولات
البشرية التي كانت تعتمد على جسم أثقل من الهواء، من أجل تحقيق الحلم الذي راود
الإنسان منذ أن فتح عيناه على الطيور وهي تجوب السماوات، بينما هو يمشي على الأرض
فقط!
وأمضى
الشقيقان وقتا طويلا في ملاحظة الطيور أثناء طيرانها، فلاحظا أنها ترتفع في مهب
الريح من خلال تدفق الهواء فوق سطح منحن من أجنحتها لإحداث عملية الصعود، ومن ثم
تقوم بتغيير شكل أجنحتها لتحويل اتجاهها والمناورة في الهواء.
واستطاع
الشقيقان اللذان كانا مولعيّن بحلم الطيران منذ فترة المراهقة أن يدخرا 29 دولارا
من أجرهما، وهو مبلغ كان "معقولا" بأسعار تلك الأيام، وكان يشتريان به محركات
السيارات القديمة "الخردة" لإجراء التجارب العملية عليها.
وسار الأخوان على نهج خاص وفريد في
التفكير، فقد كان معظم العلماء النظريين، آنذاك، يؤكدن استحالة تحقيق هذا الحلم،
ففي الجزء الأول من كتابه "تاريخ الاختراع) يقول الأكاديمي الأمريكي أيجون
لارسن: "تساءل كاتب علمي في بداية القرن الثامن عشر: هل هناك شيء أكثر حمقاً
من الرغبة في ركوب الهواء والطيران والعوم فيه؟! وفي عام 1782م أعلن الفلكي
الفرنسي جوزيف لاناد عضو الأكاديمية والعالم الشهير في مقال له أنه ليست هناك
وسيلة يستطيع بها الإنسان أن يرفع نفسه في الهواء وأن يطفو فوق الأرض، وكان في
الواقع يكرر ما يعتقده معظم العلماء في ذلك الوقت من استحالة الطيران، على الرغم
من شطحات العالم الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي في هذا المجال، وكانت هذه
الشطحات حتى تلك اللحظة مجرد أوهام غير علمية".
وخلال عام
1899، بدأ الأخوان في بناء طائرتهما الشراعية، بعد أن راحا يقرآن كل الكتب التي عثرا
عليها والتي تتحدث عن الطيران، وفي العام التالي مباشرة شرعا بالقيام بطلعات جوية
لهذه الطائرة في البراري قرب "كيتي هوك" بولاية كارولينا الشمالية، وهي
منطقة تتصف بسكون الريح وكثرة الكثبان الرملية. وبعد كثير من المحاولات، تمكنا من
تنفيذ نظام يكفل التحكم في قيادة الطائرة أثناء الطيران.
واخترعا
أول طائرة بدائية لهما عام 1898م، لكنها لم تتمكن من التحليق لأول مرة، فركزا
اهتمامهما على تطوير طريقة يمكن الاعتماد عليها من السيطرة التجريبية كمفتاح لحل
"مشكلة الصعود".
وفي عام
1903، قام الأخوان رايت ببناء أول طائرة حقيقية وأطلقا عليها اسم
"فلاير"، وزودا الطائرة بجناح مزدوج ومحرك احتراق داخلي قدرته 12
حصانًا، وصنعا الأجنحة من الهياكل الخشبية المغطاة بقماش قطني، وبدلاً من العجلات،
زودا الطائرة بزحافات خشبية، ثم بنظام تحكم ناجح الذي كانا قد ابتكراه لطائرتهما الشراعية.
وخاض
الشابان عدة محاولات فاشلة، ثم تمكنا في 17 ديسمبر عام 1903 من التحليق في الهواء
على ارتفاع وصل إلى 120 قدما، وكان هذا الإنجاز الكبير هو الأول من نوعه على
الإطلاق في التاريخ. (1)
وكتب "أورفيل" في
مذكراته بعد 10 سنوات من نجاح التجربة، يقول: "أنا أتأمل الآن بدهشة جرأتنا
في محاولة الطيران بآلة جديدة لم تُجرَّب من قبل تحت مثل تلك الظروف بيد أن
ايماننا بحساباتنا وبتصميم آلتنا الأولى الذي بُني على أساس الجداول الخاصة بضغط
الهواء حصلنا عليها بعد الشهور من الأعمال العملية الدقيقة وبثقتنا في نظام التحكم
الذي وضعنا بعد خبرة فعلية اكتسبناها خلال 3 سنوات من التجارب.. كل هذا أقنعنا بأن
الآلة كانت قادرة على الارتفاع وإبقاء نفسها في الهواء وأنه من الممكن لها أن تطير
بأمان بعد قليل من التدريب العملي".
ويقول
المؤرخون وكُتاب السيرة الذاتية إن هنالك عدة أسباب أسهمت في نجاح الأخوين، على رأسها تعاونهما
الوثيق باعتبار أن عقلين أفضل بكثير من عقل واحد، فقد اشتغلا دائماً وتعاونا معا،
وهناك سبب آخر، وهو أنهما قررا أن يتعلما كيف يطيران أولا قبل أن يصنعا أي طائرة، وقد
تعلما الطيران باستعمال طائرة شراعية دون محرك، وصنعا أول طائرة شراعية تتسع لرجل
واحد، ولكنها لم تكن ناجحة، فصنعا واحدة أخرى، ففشلت، وثالثة كانت ناجحة وقد قاما
بأكثر من 1000 تحليق جوي ناجح وأصبح الأخوان رايت أنجح طيارين شراعيين في العالم
قبل بنائهما الطائرات ذات المحرك، وكانت المشكلة أمامهما هي كيف يسيطران على
الطائرة وهي في الجو، وقد قضيا وقتاً كبيراً في تصميم الطرق للإبقاء على اتزان
الطائرة ثم نجحا في اختراع طريقة هندسية أطلقا عليها اسم "المحاور
الثلاثة" لضبط حركة الطائرة في الجو، وهو ما ساعدهما على إحراز النجاح الكامل.
(2)
ولم يتنبه
معظم الناس، فيما عدا قلة من المهتمين، إلى ما حققه الأخوان رايت، لكنهما استمرا
على الرغم من ذلك في إجراء التحسينات على طائرتهما. ثم تمكنا في نهاية عام 1905م
من بناء أول طائرة عملية وإطلاقها في الهواء، وكانت هذه الطائرة قادرة على
المناورة الكاملة والاستمرار في الطيران لأكثر من نصف ساعة متواصلة في المرة
الواحدة.
وهكذا، ظل
إنجاز الأخوين رايت غير معروف لمدة 5 سنوات، ومع ذلك استمرا في العمل بهدوء في
تطوير اختراعهما، فقد كانا يؤمنان بأن الطائرات ستحمل البشر في النهاية، وسبقا
بذلك عصرهما بأعوام طويلة.
وبعد عدة
سنوات من طيرانهما الناجح، تنبهت الحكومة الأمريكية إلى أهمية الطيران وإمكاناته
الواسعة، كما استقبل المخترعان في فرنسا استقبال الأبطال، وكان أطول طيران حققه
أورفيل رايت قد استغرق 75 دقيقة على ارتفاع قارب 100 متر. (3)
وشهد
القرن العشرين ومنذ ذلك اليوم من شتاء عام 1903 تقدما هائلا في حقل الطيران على
مدى ما يقرب من 100 عام تطورت فيها الطائرات ودخلت عصر الإنتاج الصناعي بغزارة
وتنوعت أحجامها وأشكالها ومهامها والأعباء المكلفة بإنجازها لدرجة أن محاولة جمع
الطرازات التي أنتجت فى العالم ككل فى كتاب أو مؤلف واحد يعد ضربا من ضروب الخيال
. (4)
كسر "حاجز
اليأس"
كسر "الأخوان رايت" حاجز
اليأس وحققا نجاحاً خارقاً علمياً وعملياً وشقا للبشرية اتجاهاً جديداً من اتجاهات
التطور، لذلك يقول الكاتب البريطاني جايفورد استيفر في كتابه "الطيران":
"لقد حقق الأخوان أكثر من مجرد اختراع وتطيير طائرة ذات محرك، فلقد جمعا
قدراً طيباً من المعلومات الدقيقة عن علم الديناميكا الهوائية الذي لم يكن معروفاً
من قبل، واستطاعا بالعمل والدأب أن يوضحا ايضاحاً شبه تام موضوعاً أحاطته الأساطير
والتكهنات والحسابات الخاطئة بالغموض، وهو الطيران في الهواء، ولم يكن لديهما سوى
أياد ماهرة وعزم صادق، ولذلك تحولا من بائعين إلى مهندسيّن وعالميّن نظريين في
علوم الطيران يتمتعان بمكانة مرموقة وقاما بأعمال رائدة في حل المشاكل مثل كيفية التحكم
بالأجنحة في هواء مضطرب وتصميم المراوح ذات الكفاية العالية، وحققا فتحاً علمياً
في تحديد تأثير الرياح الرافع على الأجنحة المقوسة، إن التاريخ يعرفهما كمفكريّن غيرت
أفكارهما وجه العالم".
ولكن تحقيق هذا النجاح الخارق لم
يكن أمرا سهلاً، فقد استغرق العمل سنوات من الجهد الشاق وتعرضا للكثير من الأخطار،
واستنفدت المحاولات والتجارب الكثير من المال الذي كانا يحصلان عليه من ورشة
الدراجات، ولم تكن امكانات النجاح محتملة في نظر الناس، لذلك لم يجدا من يموّل
تجاربهما ما اضطرهما إلى العمل المزدوج ولولا الاهتمام القوي المستغرق لما صبرا
على كل ذلك فاستحقا التكريم من الكونجرس الأميركي وباتت شهرتهما مدوية في كل
العالم وجرى تكريمهما في بلدان أوروبية عديدة وأسرعت الشركات الصناعية والحكومات
لإنتاج الطائرات المدنية والحربية بأعداد هائلة.
وحقق الشقيقان نظرياً وعملياً في
حلم "الطيران" ما عجزت عنه الجامعات الأوروبية والأمريكية، وما إن
أُعلَن عن هذا النجاح الباهر حتى بادرت الولايات المتحدة لإنشاء معهد للطيران
وأنشأت بريطانيا كلية لعلوم وتقنيات الطيران، وكذلك فعلت فرنسا وألمانيا وروسيا
ودول أخرى كثيرة، فأصبحت الحلول العلمية الدقيقة تسبق وتواكب التطورات العملية
العظيمة المتلاحقة في مجال الطيران، وأوغلت في تأصيل وتوسيع مجالات البحث حتى تحقق
غزو الفضاء. (5)
وبعد نالا
تكريما عالميا كبيرا من معظم دول العالم، توفي "ويلبر" بمرض التيفويد في
30 مايو 191، واستمر أخوه أورفيل في العمل وحده إلى أن تقاعد في 1915، وتوفي في 3
يناير 1948.
واليوم،
يمثل الأخوان رايت إرثاً عالمياً ويحتلان صفحات مشرّفة في التاريخ الأمريكي، ولا
تزال صورة طائرتهما الأولى تملأ الطوابع والتذكارات في الولايات المتحدة، وهي
موجودة حاليا في متحف العلوم والتكنولوجيا في مدينة "كيتي هوك" مسقط رأسيهما،
وحتى هذه اللحظة، مازالت المبادئ الأولية لهذه الطائرة تُستخدم في معظم الطائرات.
ووضع العالم الأمريكي مايكل هارت
في كتابه "العظماء مائة" الأخوين رايت في المرتبة (30) بين أكثر عظماء
التاريخ تأثيراً في مسيرة الحضارة الإنسانية. (6)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
كيندال هيفن "أعظم 100 اكتشاف على مر الزمن"- ترجمة
د. جكر عبد الله الريكاني- منشورات "دار الزمان" دمشق- 2010.
(2)
موقع "فلاينج واي"
(3)
موقع "ويكيبيديا"
(4)
موقع "كايرو دار"
(5)
موقع صحيفة "الرياض"
(6)
مايكل هارت "العظماء مائة"-
ترجمة أنيس منصور – الناشر "دار الشروق" القاهرة الطبعة الثالثة 1998.