أغانى الحزن والفراق في صعيد مصر.. "المعددة" الصعيدية.. وريثة الخنساء!
إعداد: محمد أبو الوفا
إذا
كان الشاعر العربي القديم عمرو معدي بن يكرب
هو القائل "ذهب الذين أحبهم، وبقيت مثل السيف فرداً" فإن أغاني الحزن
والفراق أو ما يسمى "العديد" في صعيد مصر تبدو أحد من السيف في تعبيرها
عن فراق المتوفى العزيز وذهاب الأحبة إلى غير رجعة!
والمصري
هو الوحيد على مستوى العالم الذين يغنى في كل الأوقات، ويعبر عما يجيش في نفسه بالغناء
من المهد إلى اللحد، فهو يتغنى للمولود في مهده وللمتوفى في لحده، وكأن الحياة
أغنية لا تنتهي!
والفلاح
يغنى للمحصول في أغاني الحصاد، والعامل يغنى للرزق والعرق وما ينجزه من عمل..
والأم تغنى لوليدها فى "أغانى السبوع".. وأغانى تدليل الطفل والختان،
وفى الأفراح تغنى الفتيات للعروس أغانى الشبكة وأغانى التفصيل (تفصيل ملابس
العرس)، وأغانى الحنة والزفاف والغزل والطحن على الرحى.. والبائع أيضاً يعلن عن
بضاعته بالغناء.
وتسود
كل هذه الأنواع من الأغاني التى يتغنى بها المصري إيقاعات حزينة تصاحب هذا الأداء
الحزين.. الذي يسيطر عليه حتى فى لحظات الفرح هو إحساس يشكل وجدانه عبر التاريخ..
فالمصري القديم كان يقدس الحزن والطقوس الجنائزية.
وفى
دراسته القيمة يحدثنا الشاعر أحمد توفيق عن "أغنيات
الفراق.. تراث الحزن فى صعيد مصر" والمقصود هنا بأغنيات الفراق هو
"العديد" الذى استفادت نصوصه من التراث العربى وأشعار الرثاء الذى
يتباكى فيه الشاعر على الميت ويعدد فضائله من شجاعة وجود ونجدة ولأن أشعار الرثاء
كان يؤلفها شعراء لهم باعهم وقدرتهم فى نظم الشعر، فكانت قصائد الرثاء مطولة مصاغة
فنياً بشكل راقٍ، ومن أمثال شعراء الرثاء العربى المشاهير: الخنساء والفرزدق وأبن الرومى وسواهم.
ولأن
"العديد" شعر تتداوله النساء اللائى لهن قدر متواضع من المعرفة
والتعليم.. فقد صيغ بشكل بسيط، وهو يتكون أحياناً من أربع شطرات تتشابه فيها قافية
الشطرين فى البيت الأول ثم نختلف قافية البيت الثانى التى تتشابه فيما بينها وقد
تتشابه قافية الشطرات الأربع، وكان الهدف الأساسى منه إستحضار حالة الحزن دون
الإهتمام بالموضوع من ذكر فضائل الميت وتعديد صفاته أو الإهتمام بالشكل مع التنويع
فى الأداء.
وتوجد
آثار واضحة تصل حد الاقتباس "للعديد" بشكله المصري الصعيدي فى الأشعار
العراقية الحديثة مثل الأشعار التى تتناول مقتل الحسين "رضى الله عنه"
خاصة تلك التى تتحدث عن هذا الحدث أو تشير إليه كما فى أشعار نازك الملائكة
والسياب وغيرهما.
"أنسنة" الطبيعة
من
الملاحظ فى "العديد" أنه يعتمد على البطء فى الأداء ووضوح الإيقاع
الحزين الذى يلون الصوت بما يلائم المناسبة، إذ لا يتناسب الإيقاع السريع مع هول
الفجيعة أو الإحساس بها بحيث يوزاى الأداء الإيقاع ولا يشذ عنه.. وتقاس قدرة
المرأة "المعددة" بمدى استطاعتها الإستمرار فى الأداء لفترة طويلة، وهو
فن تؤديه النساء ومجال لتفننهن وإبداعهن الذى يعتمد على الإرتجال أساساً، فالمرأة
هى التى تقوم بالدور فى "إبداع" العديد وأدائه وقد تكون الباكية أو "المعددة"
هى أكبر إمرأة فى أسرة المتوفى أو أية واحدة أخرى تشتهر بأنها تستطيع التعبير عن
الفجيعة فى حماس وإتقان.
والنصوص
التالية تعبر عن صورة الموت وقسوته وجبروته وذلك من خلال خطفه للأحبة وتفريقه
للشمل، وهو يصور ذلك تصويراً يخلع القلوب ويهز الوجدان إذا تمثله المستمع ملحناً
بالنغم الشجى المعجون بالإحساس المزلزل بصوت "المعددة" التى تجسد
المعانى وتشحن المستمعات بما فيه من عمق أخاذ وبساطة أسرة.
تأمل قولها:
موت
الشباب يصعب على الزرزور "الطائر المعروف"
بيت
على ورق الشجر مغمور
موت
الشباب يصعب على القمرى
بيت
على ورق الشجر يِمرى "يبكى"
والفنان
الشعبى "يؤنسن" الطبيعة.. ويصورها فى النصوص بالأم الحانية الرحيمة التى
تستقبل الميت فى مودة كتعويض عن الأهل:
لَمَن
"لما أن" وقعت ما حد سمى عليك
جريد
النخل طاطا "مال" يسمى عليك
لمن
وقعت وقلت يا سيد
الله
الشفاعة من جدع طيب
وهى
صورة آسرة لامتزاج الإنسان والطبيعة.. وصورة النخل وهو ينحنى هى لصيق اللحود
والمقابر وجزء من البيئة المكانية تستقبل الميت فى حنو بالغ ولعلها إشارة إلى الشائع
من تقدير خاص بالنخلة فى التراث العربى والإسلامي.
وتصوير
المفقود بالوردة شائع –لاحظ تلازم الورود مع القبر- فترد صور الورد فى مثل قوله عن
نضارة المفقود وجماله فى حياته:
عدمك
خسارة يا ورد فى جنينه
يا
عمود بيتك يا زهرة العيلة
عدمك
خسارة يا ورد فى مشنه
يا
عمود بيتك يا زهرة الجنة
ولعل
الصورة التى تأخذ بمجامع القلوب صورة مناداة اللحد ومحاولة استرضائه
"ومقايضته" بالشال الذى كان يتجمل به:
طب
يا لحد ما تسيبنى وخد شالى
أنا
أشوط "أمشى" على بيتى وأشوف الحال
دا
وراى ولايه فى الحى حاتحتار
وصورة
الحالة التى عليها أهل الفقيد من بعده تصور الفجيعة التى منى بها الأهل حيث صاروا
بلا قائد:
عدمك
خسارة يا أبينا العجبان
هملتنا
غنم بلا رعيان
الديب
خطف وإتبعزقوا الرمسان
ومثل قولهم:
ما
هان عليك يا بوى تهملنا
هات
لك بابور "سفينة صغيرة" يا حنون ونزلنا
والله
الزمان بعدك يهونا
ما
هان عليك يا بوى تخلينا
هات
لك بابور يا حنون ودلينا "نزلنا"
والله
الزمان بعدك يورينا
وتتعدد أوصاف الفقيدة المرأة:
يا
طرحتى وشاشى / يا طرحتى وغطاى/ يا طرحتى الخضرة / يا طرحتى الزرقة:
حبيبتى
يا امى يا طرحتى وشاشى
يا
عايله همى وأنا ما أدراشى
حبيبتى
يا أمى ما أحلى شراب زيرك
ما
أحلى القعاد فى البيت وأنا أجيلك
صدرى
ملان وأنا خاطرى أشيكى لك
جمعة
تمان تيام أقضى لك
ذهب الذين أحبهم
وفى
ما يشبه "التناص" مع التراث العربى تقول "المعددة":
أنا
داخله والباب خد راسى
ما
راحت الحبيبة اللى تقول طاطى
أنا
داخله والباب خد وشى
راحت
الحبيبة اللى يقول خشى
بعد
السلام تقعد تحدتنى
ومن
الكنايات الدالة على عظم المفقود ومكانته بين أهله. ومدى الفجيعة التى ألمت بهم
بفقده ورحيله.
قولهم
:
المندرة فزت علاويها "قامت على قدم وساق"
وأتشوقت
على دخلته فيها
المندرة
فزت لها علوة
وأتشوقت
على دخلته الحلوة
المندرة
رصوا كراسيها
ودى
كرسى مين اللى أتكسر فيها
كرسى
العريبى اللى محليها
ومن
عديد المرأة على زوجها نختار هذا النموذج الآسر:
عدمك
خسارة يا جسر بين بلدين
أحترت
من بعدك أنا أروح فين
مالقيت
حيلة بكيت بدمع العين
ومن عديدهن على الغريب قولهم:
بت
البحيرة ما تربطى كلابك
نعش
الغريب فايت على بابك
بت
البحيرة ما تربطى كلبك
نعش
الغريب فايت على دربك
ومن عديد "الغُسل" قبل الدفن:
مالك
تكب الماء على عينى
إياك
لقيتوا حبيبه غيرى
مالك
تكتب الماء على وشى
إياك
لقيتوا حبيبه خلفى
***********
يا
غسل الجدع ما تروض الحانى
لحين
نودع بعضنا تانى
يا
غاسل الجدع ما تروض الصابون
لحين
نودع بعضنا ونقوم
***********
على
المغسلة رسوا ملامحهم
صعبان
على قلة ولد محهم "معهم"
على
المغسلة رموا صداريهم
صعبان
على قله ولد ليهم
ومن عديد الكفن نختار:
جابوا
الجديد ما تقوم يا نايم
قطعوا
الجديد من غيبك دايم
جابو
الجديد ما تقوم يا نعسان
قطعوا
الجديد من غيبك لزمان
وفى الأخير تبقى كلمة:
حيث حرم الدين الإسلامي النوح والندب أو البكاء المقرون بهما أو بأحدهما،
كما في الحديث: "إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا
أو يرحم، وأشار إلى لسانه. " متفق عليه قال النووي رحمه الله: (وأجمعوا كلهم
على اختلاف مذاهبهم على أن المراد بالبكاء - أي البكاء الذي يعذب عليه - البكاء
بصوت ونياحة، لا مجرد دمع العين.)