زمان
كان المثل الشعبي يقول "أهلك لا تهلك".. أيامها كان بيت العائلة الكبير يضم
أجيالاً من الآباء والأبناء والأحفاد الذين يعيشون تحت سقف واحد، ويظلهم التضامن الأسري
كالجسد الواحد في السراء والضراء..
أما
اليوم فقد اختلف الوضع وأصبحت "الأسرة النووية" الصغيرة المكونة من الأب
والأم والأبناء هي السائدة، وكل أسرة من هذا النوع "تنشطر" عن بيت العائلة
لتعيش في شقة صغيرة بعيداً عن الأهل ، وربما تحدث المشاكل فيتشتت شمل العائلة بدعوى
أن "الأقارب عقارب".
وبين
المثلين الشعبيين فارق السماء من الأرض، ولهذا فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل أصبح
البيت الكبير "تراثاً" وجزءا من الماضي الجميل، أم أن تطورات الحياة العصرية
جعلت من بيت العيلة موضة قديمة؟
وفى
آخر تعريف للأمم المتحدة "لبيت العائلة" جاء أنه: هو البيت الذى يتناول كافة
أفراده الطعام على مائدة واحدة، ولنقرب صورة الالكبير للقارئ سنتعرف على شخصيات ترعرعت
داخله وسنعرف أيضاً لماذا اختفى هذا البيت فى عصرنا الراهن، عصر الأسرة –النووية- الصغيرة
؟!
صراعات الحياة فرقت الشمل وجعلت الأقارب "عقارب"
"بيت
العائلة كان حصن أمان" بهذه الجملة المعبرة بدأ السيد محمود سعيد أبو العلا ( 65 سنة ناظر مدرسة على المعاش) كلامه وأضاف: كنا
نعيش ثلاثة أجيال في بيت واحد، الأب والأبناء والأحفاد، كنا عشرات، كلما كبر أحد الأبناء
يخصص له الأب غرفة في البيت الكبير، أو يبني له غرفة جديدة وكان جميع الأبناء ينشأون
في "حوش الدار" أي في وسط البيت أو ما يسمى الآن (صالة) أو (ريسبشن) لم يكن
هناك أب ينام وذهنه مشغول بكيفية توفير قوت الغد، لم يأت عيد أو مناسبة سعيدة مثلاً، فيلف الأب ويدور حول نفسه لتدبير احتياجات الأولاد والأسرة من ملابس ومستلزمات لهذه
المناسبة، فكان الجد أو الجدة وكلاهما كان يتساوى في السيطرة على بيت العيلة، هو الذي
يتولى تدبير هذه الاحتياجات لأنه كان "الخزينة" التي تتجمع فيها كل أموال
الأسرة، وكل مكاسب أبنائها حتى الأحفاد اذا كبروا وعملوا، فإنهم يسلمون عائد عملهم
للجد أو الجدة، ولأن الكبير كان له احترامه، فلم يجرؤ أحد أفراد العائلة على الاعتراض
على شئ، وإذا اعترض يحكم مجلس العائلة بما يسمى (العزلة) أي يُعزل بمفرده عن البيت
الكبير، وهذا كان بمثابة رعب لأي أفراد العائلة، لأن هذا البيت كان حصن أمان وسلام
لكل من يسكن فيه لا أحد يحمل هماً ، ولا ينام وفي صدره غم، كما يحدث في هذه الأيام
السوداء.
ليالي زمان
ويضيف
عم محمود: عندما أنظر اليوم في وجوه الأباء والأمهات من الأجيال الجديدة، أرى القلق
والهم يعلو الوجوه، والخوف من الغد أصابهم بالأمراض، أما نحن في ليالي زمان فكنا نضحك
من قلوبنا، نجلس بعد صلاة المغرب وحتى صلاة العشاء في حلقات السمر نتحدث، ونناقش مشكلنا
بحب وتفاهم، وكانت كل المشاكل تحل على (طبلية العشاء) التي تم استبدالها الأن
"بالسفرة" .
وفي
نهاية حديثه يقول عم محمود: آه لو يعلمون السعادة وراحة البال التي كانت تعم هذه البيوت،
لعادوا إليها فوراً بأي وسيلة، ولكنهم لا يعلمون.
البيت
الكبير كان مرتبطاً بعمل العائلة في مهنة واحدة
ويصف
لنا الحاج محمد الفقى "75 عاماً" بيت العائلة الذى ترعرع فيه قائلاً: كنت
يتيماً ولكن لم أحس يوماً بأن والديى غائبان فكان لى أربع أمهات وهم زوجات أعمامى الذين
يعيشون معنا فى نفس البيت فكن يعاملننى مثل أبنائهن بالضبط، وكان جدى يمسك ميزانية
المنزل فيأتى أعمامى كل شهر ويعطوا له كل مليم كسبوه ويقوم جدى بشراء كافة مستلزمات
المنزل ووقت الطعام يتجمع الرجال ليأكلوا على طبلية والنساء والأولاد على طبلية أخرى.
والبيت
كان مكوناً من سبع غرف كل غرفة تسكن فيها عائلة وفى الأعياد كان جدى يحضر الملابس الجديدة
للبيت كله وكانت حياتنا دافئة وبيننا ترابط كبير فإذا مرض أحد كأننا جميعاً مرضنا وإذا
نجح أحد كأننا جميعاً نجحنا وقلما كانت تحدث مشكلات بيننا وأذكر عندما مرض أبى وكان
يحتاج لإجراء عملية تكاتف إخوته ليجمعوا له المال لإجراء العملية فكان الحب هو فقط
دافعهم، ولكن عندما كبرنا وتزوجنا ضاق المنزل بنا فتقدمنا للبحث عن عمل ومنزل نقيم
فيه وهكذا تفرقت الأسرة واليوم انتظر أولادى فى المناسبات فقط لرؤيتهم والاطمئنان عليهم.
ومن
جانبه يقول الدكتور محمد منصور: التطور هو السمة البارزة فى حياة الأفراد وفى الفكر
والعقائد وأساليب الحياة وإن ما يمتلكه الناس من الوحدات السكنية لم يكن فى منأى عن
هذا التطور عبر المراحل المختلفة فبعد أن كان بيت العائلة يتكون من غرف كبيرة أصبح
الآن يتكون من أدوار يحتوى كل دور على شقة لكل عائلة ولكن لم يعد يربط بينهم نفس الرابط
الأسرى بل تغير الوضع، وقد تقوم خلافات ومشاكل بين بعض أبناء الأسر التى تسكن فى عمارة
واحدة، لهذا يفضل الكثيرون السكنى بعيداً عن العائلة.
وتتذكر
الحاجة سعاد 65 عاماً قائلة: منزل العائلة الذى كنت أسكن فيه كان مكوناً من ست غرف
كبيرة كنا نسميها مقعد وكل أسرة لها مقعد خاص بها وكانت حماتى توزع علينا أعمالنا داخل
المنزل فهناك من تقوم بالطبخ ومن عليها الغسيل والأخرى الاهتمام بالأولاد، ودائماً
أرى زوجى مع أخوته يتشاورون فى أعمالهم ويعطون كل رواتبهم إلى حماتى فلم نكن يوماً
نقترض من أحد، كل من فى المنزل كان يعرف مسئوليته ويؤديها على أكمل وجه إلا أن تزايد
عدد العائلة وكبر الأحفاد اضطررنا الرحيل عن بيت العائلة لنبحث عن منزل آخر يتسع لنا
بعد تزايد عددنا ودائما نترحم على أيام زمان.
والباقى هواتف!
ويرى
الحاج محمد ماهر: وهو واحد من الذين تربوا وترعرعوا في بيت العائلة أن: البيت الكبير
أو "بيت العيلة" بشكله التقليدي لا يمكن أن يعود هذه الأيام ، نظراً لظروف
كثيرة أهمها تعليم الأبناء وتخرجهم بمؤهلات مختلفة تتيح لهم فرص عمل في مهن وأماكن مختلفة، وبالتالي يقترب كل ابن من
محل عمله قدر الإمكان ، فظاهرة الأسرة التي تعمل بكاملها في التجارة، أو الفلاحة، أو
أي حرفة، أو مهنة واحدة لم تعد موجودة حالياً، فقد كان البيت الكبير قائماً على سيطرة
الجد على مقاليد الأمور، ولكن حالياً أصبح كل شخص يتحمل مسئولية أسرته الصغيرة.
وتمسك
بطرف الحديث السيدة فوزية محمود: مشيرة الى أن هناك شكلاً آخر للعائلة يمكن أن يكون
البديل اليوم، ويؤدي إلى نتيجة اجتماعية طيبة للغاية ربما تقترب من نتائج بيت العيلة
القديم، وهذا الشكل هو حرص كل أفراد العائلة على التجمع يوماً في الأسبوع في أحد بيوت
العائلة، ولا يتخلف أب أو أبن أو حفيد ويقضون اليوم بأكمله مع بعضهم، يتناولون أكثر
من وجبة ويطرحون مشاكلهم وهمومهم على بعضهم البعض، وأيضاً ضرورة الحرص الشديد على تجمع
كل أفراد العائلة في المناسبات المختلفة..
فهذا
من شأنه أن يخلق الإحساس بالعائلة وبيت العائلة
أن لم يكن تحت سقف واحد، والباقى تقوم به التليفونات والهواتف فى "عصر الاتصالات"
الراهن..
وتتفق
الحاجة سهير مصطفى مع الرأي السابق: مؤكدة أن بعد زواج الابناء، وانفصال العائلة كل
فرد من أفرادها في بيت وربما في بلد آخر ،يجب أن تحرص هذه الأسر الصغيرة كل الحرص على
تجميعهم في المناسبات المختلفة في بيت الأم، أو في بيت أحد الأبناء الآخرين، حتى لا
نفتقد كثيراً روح الأسرة الواحدة، وأن كنا نفتقد التجمع على فترات متقاربة، ويجب أن
تحاول الأخوة قدر الإمكان أن يكون هناك تواصل دائم و لو هاتفياً بين الأخوات حتى يتصل
الود باستمرار وعندما يتم التجمع يكون هناك حميمية ودفء في اللقاء العائلى.
وتشير
إلى مخاوفها من أن تنصرف الصحبة وتتفكك الاسر أكثر بين أبناء الجيل الجديد وتقول: للأسف
هناك أسر "أخوة وأخوات" كثيرة يتفرق شملها بعد وفاة كبيرهم الذي يجمعهم أو
يتجمعون حوله ويجمعون على حبه ورعايته.. لهذا فأنا أحاول جاهدة تنمية روح الإخوة والود
المتصل بين الأبناء حتى لا تتقطع الأواصر بعد رحيلي.
هل
ترين أن أبناءك وأحفادك يحرصون على اللقاء العائلى؟ سؤال طرحناه على إحدى الأمهات:
فأجابت:
بصراحة إبنى الأكبر فقط هو الحريص على ذلك، أما باقى الأبناء والبنات والأحفاد فهم
مشغولون بأنفسهم ومشاكلهم الخاصة، وأنا أرى أن الزمن –مع الأسف- ضد التضامن العائلى!
العائلة هي السد المنيع في وجه طوفان الحداثة
اما
الحاج إبراهيم الفضالى "63 عاماً" فيقول: الواقع أن بيت العيلة مازال موجوداً
فى الريف المصرى حتى الآن، عكس المدينة التى يسكن أهلها فى شقق صغيرة وبيوت ضيقة وكل
واحد فى حاله، حتى الجيران لا يعرفون بعضهم بعضاً، ولكن فى الأرياف مازالت للعائلة
سطوة وللبيت الكبير الذى يضم أجيالاً مكانة خاصة، فالناس فى الصعيد يفضلون زواج الأقارب
حرصاً منهم على توثيق عرى المودة والقرابة، وهو أمر يجعل الزوجة تعيش فى بيت العائلة
وكأنها فى بيتهم، فلا تحدث المشاكل التى تسهم فى تفكيك العائلات بطبيعة الحال.
ولكن
ماذا يقول علماء الإجتماع عن بيت العيلة الكبير، وهو هو ظاهرة إجتماعية إنحسرت بفعل
الزمن وتطورات الحياة العصرية؟
من
الواجب التفريق بين الأسرة النووية المكونة من الزوج والزوجة والأولاد والأسرة المتحدة
التى تشمل الأجداد والأعمام ويشير قائلاً: إلى أن وسائل الإعلام ساهمت فى اختفاء البيت
الكبير نظراً للصورة السلبية التى يظهر بها بيت العائلة والحماة، فالفتيات المقدمات
على الزواج تفضلن الابتعاد عن سلطة العائلة كما فضل الشباب الابتعاد عن سلطة الأب،
وهكذا ذهب بيت العائلة مع ريح الحداثة والعصرية.
إن
المتغيرات الاجتماعية والإمكانيات المادية ساهمت فى اختفاء بيت العائلة بعد أن أصبح
من الصعب الحصول على مساكن واسعة يستطيع كافة أفراد العائلة الإقامة فيها لارتفاع أسعار
الخدمات والمرافق وهو ما أدى لرغبة أبناء الأسرة فى الاستقلال عن منزل العائلة، والأهم
من ذلك انتشار البطالة مما دفع الكثير من الأفراد للسفر للخارج أو العمل فى أماكن بعيدة
مما يصعب من محاولة لم شمل الأسرة فى منزل واحد.
والسؤال
يجب أن يكون فى كيفية إيجاد بديل للمنزل العائلى وذلك من خلال الاهتمام بالرعاية الأسرية
من قبل وسائل الإعلام وتحسين مستوى خدمات دور المسنين ومحاولة ربطهم بذويهم وإذا كان
بيت العائلة قد اختفى من حياتنا الاجتماعية فما زالت المعانى التى يمثلها حية ويجب
العمل على نشر قيم التضامن الأسرى والتراحم، وذلك من خلال تربية أطفالنا على الانتماء
للأسرة السد المنيع الذى يريد الغرب اختراقه ليجرفنا طوفان "العولمة"!
مزايا البيت الكبير أو بيت العائلة
أولاً:
رعاية الأجداد فكلما زاد الوالد فى السن زاد احترامه وتقديره فهو عماد المنزل وركنه
الركين.
ثانياً:
لم تكن هناك أزمات اقتصادية لأن الميزانية كانت فى يد الجد أو الجدة والجميع يساهمون
بكل ما معهم فى مصروف البيت.
ثالثاً:
المرأة العاملة التى كانت من أشد المتحمسين لعدم السكن مع العائلة خسرت كثيراً لأن
بيت العائلة كان بمثابة دار حضانة فهناك عدة سيدات كن يقمن برعاية الأطفال.
رابعاً:
التكاتف الأسرى فى كافة المناسبات سواء السعيدة أو غير السعيدة.