القانون الكلي
أورد شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية (٦٦١ - ٧٢٨هـ)، هذا الرأي ونحوه، معتبرا إياه بمثابة #قانون_كلي عند أتباع الفخر الرازي، وغالب أئمة الأشاعرة من قبله كإمام الحرمين الجويني والقاضي الباقلاني وحجة الإسلام الغزاليّ وغيرهم من المجتهدين!.
قبل أن يقوم بتفنيده والردّ عليه بالحجة والبرهان في كتاب ضخم، يقع في عشرة مجلدات بعنوان: "درء تعارض العقل والنقل"، حرص فيه "ابن تيمية" على إبطال الزَّعْم المُتبنِّي لقضية تقديم الأدلة العقلية مطلقا!...
وقد طال السجال والمناظرة بين هؤلاء العلماء الأفذاذ بما يمتلكون من إخلاص عميق وذخيرة معرفية هائلة وعقول موسوعية حَوَتْ أحكام القرآن والحديث ودروب اللغة والتفسير والفقه وأصوله وعلم الكلام والفلسفة والمنطق وغيرها من المعارف التي أَهّلتهم للنظر في النصوص ورفعتهم إلى مصاف الأئمة المجتهدين المأجورين إن أصابوا أو أخطأوا..
إبراهيم عيسى .. وبضاعته المُزْجاة
والعجيب أن نرى بعد كل تلك المصنفات والثروة الفقهية في تراثنا الإسلامي، من يخرج علينا ببضاعة مُزْجاة ويقوم دون حياء تحت مسمى الباحث والمفكر، برد الحديث الصحيح أو يتصدر الفتيا ويحاكم التراث، متحدثا بصورة طاووسية ولسان حاله قول الشاعر العباسي أبي العلاء المعرّي:
فإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانَهُ ... لآتٍ بما لم تستطعهُ الأوائلُ!..
و #الأمثلة_الفجة في هذا الشأن مما لا يُحصى في زماننا الذي اختارت الأنظمة الحاكمة للعالم الإسلامي فيه تسويق مثل هؤلاء بحجة حرية الرأي ودعاوى التجديد ومواكبة العصر. وقد كان من أكثرها فجاجة مثال الصحفي إبراهيم عيسى الذي فُتحت له القنوات المسموعة والمقروءة فخرج يقول بملء فيه: «ليقل البُخاري ما يقول، لكنها رواية لا تصح ولا يجب أن تصح، لا تاريخا ولا عقلا ولا نقلا!..».
درع النبي
وهي العبارة التي قالها واضحة جلية في مقالة بعنوان: "درع النبي"، كتبها على نصف صفحة في افتتاحية صحيفة الدستور بتاريخ ٢٧ سبتمبر ٢٠٠٦م، من أجل رد حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله ﷺ اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل، فرهنه درعه»!.. دون اعتبار لورود الحديث في صحيح البخاري ومسلم فضلا عن النسائي وابن ماجه ومسند الإمام أحمد وغيرها..
والموضوعية هنا تقتضي ذِكْر أهم مسوغات "إبراهيم عيسى" في مقاله العريض الذي دبّجه من أجل رد حديث رهْن درع النبي ﷺ لليهودي، والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
١- لم يثبت أن قام أحد من أهل بيت النبي ﷺ بفك رهن الدرع بعد وفاته، وهنا تأتي علامة الاستفهام الأهم، إذا كان النبي قد مات ودرعه مرهونة عند يهودي فما مصير هذه الدرع، فلمْ نجد كتابا ولا سيرة ولا تاريخا حكى لنا عن أبي بكر الصديق وقد استردها، ولا عن عمر بن الخطاب أنه أعادها من اليهودي؟!. فلماذا تسكت كتب التاريخ جميعا عن سيرة الدرع ولا تذكر إطلاقا مصيره، وهى التي لم تدع شعرة للرسول إلا وتتبعتها؟!.
٢- النبي ﷺ لن يترك لنا مغزى ومعنى يقضي بجواز رهن سلاحنا لدى أعدائنا؟!.
٣- كيف لقائد (يقصد النبي ﷺ) يُجهز جيشًا (جيش أسامة بن زيد) أن يرهن درعا أو يُبقى على أسلحته مرهونة ؟!.
٤- لماذا لم يقترض الرسول ﷺ من مليارديرات الصحابة العظام الذين كانوا يبذلون أموالهم في سبيل الله، مثل عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان؟!.
هذه كانت أبرز المآخذ "العقلية" التي استند إليها إبراهيم عيسى في إنكاره لحديث السيدة عائشة المتفق على صحته في كتب الحديث، والتي لا يحتاج تفنيدها والرد عليها لعالم متبحر في أمور الدين بل لمجرد قاريء مهتم بسيرة النبي ﷺ وكتب التراث المشهورة ليس إلا..!.
فعلى سبيل المثال لو كلف "إبراهيم عيسى" نفسه وفتح كتاب "زاد المعاد في هدى خير العباد" للعلامة أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المشهور بابن قيّم الجوزيّة (٦٩١ - ٧٥١هـ) لوجد فصلا بعنوان: سلاح النبي ﷺ وأثاثه وفيه ذكر لسيوفه ﷺ وقسيّه ورماحه ودروعه، ومن ضمنها تلك الدرع المرهونة عند اليهودي مقابل الشعير!.[٤]..
وإذا كانت كُتب الإمام "ابن القيّم" لا تروق للأستاذ إبراهيم عيسى باعتبارها من مروّجات الدعوة السلفية، فإن وزارة الأوقاف المصرية قامت مع لجنة إحياء التراث بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بإعادة طبع الموسوعة الشاملة لسيرة النبي ﷺ للعلامة "شمس الدين محمد بن يوسف الصالحي الشامي" أحد أعلام القرن العاشر الهجري، ونشرها في أواخر تسعينيات القرن الماضي..
والتي كان عنوانها: "سُبل الهُدَى والرّشَاد في سيرة خير العباد ﷺ"، وتقع في ١٣ جزءًا يشتمل على نحو ألف باب جمعت كل ما يتعلق بسيرة النبي ﷺ والتي استقاها من أكثر من ثلاثمائة كتاب متحريّا الصواب والصحيح فيما أنتجه العلماء السابقون!.
وفيه ذكر العلامة الشامي: «إن للنبي ﷺ سبعة دروع هى: السُّغْدِيَّة (درع نبي الله داود التي لبسها حين قتل جالوت) وفضة –كلاهما من غنائم غزوة بني قينقاع– وذاتُ الفُضُول وهي التي رهنها عند أبي الشّحْمِ اليـهودي على ٣٠ صاعًا من شعير وكان الدين إلى سنة!.
وأما الأربعة المتبقين فهى: ذات الوِشاح وذات الحواشي والبتراء والخِرْنَق»!..
بناءً عليه فإن رهن الدرع لن يترتب عليه أي تأثير كما توهم الأستاذ إبراهيم عيسى، لوجود البدائل المتعددة، هذا فضلا عن أن النبي ﷺ لم يكن في نيته الخروج مع الجيش الذي كان يضم كبار الصحابة ولذلك أمّر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما!.
ولا أدري من أين جاءت الجرأة للصحفي إبراهيم عيسى حتى يجزم بأن كُتب التراث سكتت عن مصير الدرع على حد زعمه، وما من كتاب تعرض لذلك الحديث وشروحه وفقهه إلا وذكر أن النبي ﷺ رهن درعه عند يهودي هو "أبو الشحم" من بني ظفر حلفاء الأوس، وأن أبا بكر الصديق قد افتك رهنيته وأعطاه لعليّ بن أبي طالب. ذكر ذلك أكثر من واحد على رأسهم الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" وهو أشهر كتب شرح صحيح البخاري وأعلاها شأنا حيث استند في روايته لما جاء في كتاب مفتي الأندلس ومحدثها في عصره العلامة "ابن الطلاع المالكي القرطبي" (٤٠٤ - ٤٩٧هـ) في كتابه "أقضية رسول اللهﷺ"..
وتم تأكيد ذلك في الكُتب التي شرحت صحيح مسلم أيضا ومن أجلّها وأيسرها كتاب "فتح المنعم في شرح صحيح مسلم".. المكون من عشرة مجلدات للدكتور الشيخ "موسى شاهين لاشين" أحد أبرز علماء الأزهر في العصر الحديث – يصادف اليوم ذكرى وفاته رحمه الله حيث توفى يوم الثلاثاء ٩ محرم ١٤٣٠هـ / ٦ يناير ٢٠٠٩م– هذا فضلا عن العديد من كتب الفقه المعتبرة مثل "الأم" للإمام محمد بن إدريس الشافعي، وشروح مذهبه المعروف باسم "المجموع شرح المهذب" والذي بدأه الإمام النووي (٦٣١ - ٦٧٦هـ) وأكمله من بعده الإمام تقي الدين السبكي (٦٨٣ - ٧٥٦هـ) ..
الرد على استفهامات إبراهيم عيسى
ثم ختم التكملة الشيخ المعاصر "محمد نجيب المطيعي" (المُتوَفّي في ٩ محرم ١٤٠٧هـ / ٢٤ سبتمبر ١٩٨٥م)، وقد كانت بداية تكملته مع فقه البيع وأحكامه ثم تلاه في نفس الجزء بكتاب الرهن الذي سوف نختم منه الرد على بقية استفهامات "إبراهيم عيسى" ففيه القول الشافي لكل ذي عقل، حيث قال "المطيعي" في التعليق على الحديث: «النبي ﷺ اقترض من أبى الشحم اليهودي ثلاثين صاعًا من شعير لأهله بعد ما عاد من غزوة تبوك بالمدينة، ورهن عنده درعه وكانت قيمتها أربعمائة درهم.. وفي هذا الخبر فوائد (تشريعية) منها:
- جواز الرهن في الحضر، لأن ذلك كان بالمدينة وكانت موطن النبي ﷺ.. وقد كان الله سبحانه شرّع الرهن في السفر في قوله: ﴿وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾..
- أنه يجوز معاملة من في ماله حلال وحرام إذا لم يُعلم عين الحلال والحرام، لأن النبي ﷺ عامل اليهودي، ومعلوم أن اليهود يستحلون ثمن الخمر ويربون!..
- أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن، لأن النبي ﷺ مات ودرعه مرهونة.
- أن الإبراء يصح ، لأن النبي ﷺ لم يعدل عن معاملة مياسير الصحابة مثل عثمان وعبد الرحمن -رضي الله عنهما- إلا لكونه يعلم أنه لو استقرض منهم أبروه»!...
يتبقى موضوع التعامل مع اليـهود رغم ما عرف منهم من العداوة والحروب في العهد النبوي، وقد كتبت سابقا [*] أنه في بداية دولة الرسول ﷺ كان المسلمين واليـهود أمة واحدة من دون الناس، فلما جاروا وبدت البغضاء منهم، قاتلهم المسلمون فأجلوهم (بني قينقاع وبني النضير) وذبحوا مقاتليهم وأسروا أطفالهم ونسائهم (بني قريظة) حتى دانت المدينة بأكملها تحت حكم رسول الله ﷺ، ولم يبق إلا المُعاهدين من بطون الأوس والخزرج، الذين يندرج وضعهم تحت حكم الآية ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة، الآية:..
دعوة لامتلاك أدوات التفكير والقدرة على الاستنباط
وفي الختام لا يجب اعتبار المقال دعوة للجمود وعدم إعمال العقل فالتفكير فريضة إسلامية كما كتب الأستاذ العقاد يوما، ولكنه دعوة لامتلاك أدوات التفكير والقدرة على الاستنباط فإذا كان لا يمكن أن يفتي في مكونات المادة وتفاعلاتها غير الكيميائي، ولا يتحدث عن الظواهر الفلكية والأجرام السماوية غير الفلكيّ، فمن باب أولى لا يجب على ذلك الخليط المكون من الغرور والمبالغة في الاعتداد بالنفس مع عُمق الجهل، أن يخرج علينا فيهرف بما لا يعرف ويهذي بما لا يدري برعونة يجهل عاقبتها؛ ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾.
وهي الآية التي جعلت العلامة الدكتور "يوسف القرضاوي" –أحد منظري المدرسة العقلية– يخشى ويتهيب قائلا: «.. فإني أوثر في الأحاديث الصحاح التوقف فيها، دون ردها بإطلاق، خشية أن يكون لها معنى لم يفتح الله عليّ به بعد..»!..
تنويه: كتبت في المقال السابق عن مقالات إبراهيم عيسى المُعارِضة لنظام مبارك، ولم أكن يوما من المعجبين به لاختلاف الفكر والهوية، ولكني كنت استدل بمقالاته في تعرية نظام مبارك والحزب الوطني الحاكم وقتها، وقد جاء في الأثر: «الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها ولو جاءت على لسان المشركين»!..
وقد رأيت في الرجل وقتها الجنديّ المقاتل في معركة الأمة ضد الظلم والطغيان، وإن كان خنجرًا في ظهرها بالطعن في السنة والتشغيب على صحيح الدين!.
ومن ثمّ قد يلتقي معنا في نفس القضية رجال لا يجمع بيننا وبينهم شيء سواها، ليستفِد الطرفان (المتناقضان) ويسد نقص أحدهما بالآخر، حتى إذا نزعوا أيديهم نزعنا!..
وقد سبق أن استفادت الأمة من دعم الاتحاد السوفيتي الملحد في حربها ضد الصـهاينة وحليفتهم الولايات المتحدة منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى منتصف السبعينيات، قبل أن تخوض ضده حربا شعواء في أفغانستان في الثمانينات..
ولذا لما اتهم البعض "إبراهيم عيسى" بالعمالة المستترة للنظام آنذاك، كتفسير لما بدا منه بعد ذلك من تغير، رأيت نشر هذا المقال الذي جمعت مادته في العام ٢٠٠٦م (وقت نشر المقال) تمهيدا للحديث عن تلك التهمة التى اعتقد فيها التبسيط إلى حد كبير وتحتاج تجليتها إلى الحديث عن الصورة العامة للمعارضة في عصر مبارك وذلك في مقال قادم بإذن الله تعالى يواكب أجواء يناير وذكرى الثورة المجيدة!.
كتبه الفقير إلى عفو الله / أحمد الشريف..
٦ يناير ٢٠٢٢م / ٣ جمادى الآخرة ١٤٤٣هـ