رمزية الحضارة والأنثى- قراءة أدبية في لوحة تشكيليلة للفنانة الليبية شفاء سالم.
"شفاء سالم" من مواليد بنغازي. ليبيا.
تعتمد شفاء سالم في مشروعها الفني إحياء الذاكرة والتراث الليبي، وتحاول إعادة اكتشاف ليبيا عبر تاريخ الإنسان الليبي منذ بدأ التاريخ وحتى اللحظة الراهنة." هذا ما قرأته على صفحة الصديق الشاعر محمود سباق، وقد أسرتني لها لوحة خاصة هي اللوحة المرفقة بالمنشور، وقرأتها عدة قراءات، دون أن يكون لدي أي خلفية عن الفنانة سوى السطرين السابقين وبضع لوحات.
كانت القراءة الأولى عن الذات في تحولاتها، ثم القراءة الثانية عن الذات الوطنية، ثم كانت القراءة الثالثة التي أبدع فيها هذه اللوحة من جديد مع صاحبتها وفق منهجي الإبداعي في النقد والذي يراعي بقية الفنون الجميلة أيضًا، مع الإشارة إلى أن ما أقدمه هنا هو نوع من القراءة الأدبية لا النقد الفني الذي هو مجال خاص له احترامه ورجاله.
ولا شك أن العمل معطاء، بما فيه من تركيبية وتعدد مستويات للتلقي وإبهار ، وهو يسمح بمستوى ترميزي، كل ذلك يجعلني أبدع اللوحة من جديد على هذا النحو:
لماذا نرى في هذا الرمز رمزًا للحضارة العربية؟ وكيف تخدم مفردات اللوحة هذا المستوى الرمزي، وما دلالة ذلك الواقعية، إذ الفنان الحق لا ينفصل عن ماضيه ولا عن مجتمعه.
بداية نحن أمام شخص يحمل سمات متناقضة، فهو يبدو هزيلاً كهلاً هرمًا، رغم هذا الطول الفارع، المتكوم ككومة من العظم، ولكن إن دققنا في الوجه وجدناه وجه شاب، غير أنه ذابل، وتلك هي الحضارة العربية الإسلامية الفتية التي أنهكت بفعل واقعنا المأساوي وتخلينا عن إمدادها بالغذاء والعطاء، وغذاء الحضارة هو العلم والابتكار والتقدم. وهذا يعني أنها حضارة فتية وما زالت موجودة وعائشة ومؤثرة، هذا الشباب يحمل شيئًا من النضارة والفتوة الماثلة في عمق هذه الشخصية بما يجعلها تفيد أهلها وتفيد الإنسانية.
ثانيًا إن كنا قد أنهكنا هذه الحضارة بهذا الشكل، فالحضارات الإنسانية امتصت خيراتها ومبتكراتها وإبداعاتها بحيث ذابت في مكوناتها، وهذا يفسر إنهاك هذه الحضارة بهذا الشكل، ولو أن الإنهاك الثاني إيجابي ومشروع، لأن الطبيعي أن الحضارات يستفيد بعضها من بعض، أما الإنهاك الأول فهو إنهاك سلبي بسبب تخلينا عن إمدادها بالوهج الحضاري المنشود. لذا تتكون الحضارة ككومة من العظم بهذا الشكل، بيند أنها لم تمت وفي حاجة إلى بعث جديد. وهذا سر قدر من التركيبية في هذه اللوحة البديعة.
ولنلاحظ أنه لا يعلم أين يضع أقدامه، فأصابعه، تتحسس مكانها، كما أن هناك بعض الخيوط الدالة على أنه ينزف، وإن كان نزيفًا أبيض يحمل شيئا من الكبرياء الخفي.
وهنا نأتي لباقي مفردات اللوحة. ونبدأ ذلك بالوضعية ذاتها التي يتخذها الشخص/الحضارة، إنه وضع مقلوب أو شبه مقلوب، وهذا قد يعني في القراءة الأولى اختلاط أمور الذات كما يعني في المستوى الثاني اختلاط أمور الوطن، وكلاهما يؤدي إلى القراءة الثالثة، فكل الأمور في الوطن العربي والحضارة العربية الإسلامية الآن مختلطة ومتعثرة، كل شيء في أوطاننا إما مؤجل أو متوقف بسبب تراكم المشكلات وعدم حلها، لأسباب كثيرة تفوق الحصر، كلها راجع إلى التقصير الداخلي أو التعجيز الخارجي. وهكذا يبدو هذا الشخص/الحضارة كعملاق متكوم في شرنقة.
ثم نجد رمزًا بارعًا هو الرمز الذي يعطي اللوحة وهذه القراءة كل الزخم المطلوب، رمز عباد الشمس، فهذا النبات يشبه قرص الشمس من ناحية، كما أنه يقال إنه يتحرك مع حركة الشمس ليستقي ضوءها من ناحية ثانية.
ما تعني هذه الشموس؟
لكي نفهم ذلك علينا أن ننظر إلى رمزية النبات ذاتها بأنه تلك الشموس كما أشرنا، ثم لنلاحظ أنها قسمان أو نوعان: قسم من الشموس/النباتات حي متوهج يسطع ملء الأفق، وهذا ما يعبر عن الحضور الذهبي للحضارة العربية الإسلامية من ناحية، وأن هناك من أبنائها المخلصين من لا يزال يرويها بروحه، فالحضارة الحقة لا تموت وإن مرضت. ومن ثم يبدو هذا القسم مشرقا وموحيًا بالأمل والتفاؤل، وفي وجود هذا القسم في الأمام رمزية مهمة لاستكمال الشوط، وبحث هذه الحضارة والمخلصين من أبنائها عن شق طريق نحو المستقبل.
ويلاحظ أنه عاكف عليها ناظر إليها، متعطش للتواصل معها، لأنها من جنسه. وهذا يفسر كيف تشع أجزاء من جسده، لأن هذه الشموس تنعكس عليه.
أما القسم الثاني فهو قسم الشموس المطفأة/ النباتات الذابلة، الجزء المتساقط من الحضارة العربية الإسلامية، جزء التقصير والإهمال من كل الأطراف، وهو القسم المظلم الذي تنطفئ فيه الشموس.
ويلاحظ أنه القسم الذي يدوس عليه بالأقدام، أو يريد أن يعبره نحو النور.
ومن هنا تبقى الرؤية الإجمالية للوحة دعوة إلى أن يوقظ كل منا شمسه في داخله وفي الواقع حتى تزهر شمس حضارتنا من جديد، وهذا طموح مشروع، تقوم فيه المبدعة العربية بدور بارز تستحق عليه التحية والتقدير.
ولكنا جميعًا أفرادًا وجماعات وشعوبًا وحكومات في حاجة أن نعدل أوضاعنا، حتى نكون على الطريق الصحيح، وتلك هي الدلالة الأبرز التي تصرخ بها اللوحة بهذه الرمزية العالية والشفافية والأناقة والإشراق الباطني العميق المشع من جنبات العمل. ويبقى السؤال الذي يحتاج إلى إجابة إبداعية: أما آن لهذا العملاق المتكوم في شرنقته أن ينطلق من عقاله.
د.السيد العيسوي عبد العزيز