قَدر
الشعراء أن يحملوا هما فوق هم ، فهم مهمومون دائما ، إما بهمهم الخاص أو بهموم العامة
التي تؤرق مضاجعهم وتقلق حروفهم ، والشعراء الشعراء تجاه تلك الهموم نجدهم أصنافا
:
ـ صنفا
تأخذه همومه ، ويتملكه بؤسه ، ويفنيه شقاؤه ، ويقعد به حظه العاثر ، فيسلم أو يستسلم
، كما كان الحال مع شاعر البؤس " عبد الحميد الديب " الذي فقد الإرادة والعزيمة
أمام بؤسه وفقره وشقائه ؛ فأضاع نفسه وشعره ، يقول :
"
وهام بي الأسى والبؤس حتى كأني عبلة والبؤس
عنترْ "
ـ وصنفا آخر يجد عزاءه وسلواه في الكأس والحسناوات
؛ فينطلق يغني لهما ـ وكأنه يهرب من همومه وأوجاعه إلى رحابة الكأس وطراوة الحسن ،
كما هو الحال مع الملاح التائه " علي محمود طه " الذي يقول :
"
حياتي قصة بدأت بكأس لها غنَّيْتُ وامرأة
جميلةْ "
ـ صنفا
ثالثا ـ وقليل ما هم ـ يعانون ولا يستسلمون ، يواجهون ولا يهربون ، يقتلون أنفسهم تفكيرا
بحثا عن حلول لما تواجهه الإنسانية من عذاب وشقاء ، يذوبون أملا في إيجاد بصيص من نور
يلمع هنا أو يضوي هناك ، تثقفوا فوظفوا ثقافتهم ، تعلموا فنشروا علمهم ، أدركوا ببصيرتهم
ما لا يدركه غيرهم فراحوا يبصرون ويرشدون ويهدون ، ومن هؤلاء يقف شاعرنا الكبير
" السيد جلال " في زاوية تتيح له
أن يرى الصورة بوضوح فينفذ إلى ما خلف البادي للعيان ، ومن هنا كانت معاناته ، ومن
هنا كان شقاؤه ، ومن هنا كان بؤسه ، ومن هنا كان عذابه ، يقول في مقطوعته الشعرية القصيرة
في مبناها العميقة في معناها " رحابة
" ص 131 :
" قد لا يتسع الصدر / لأن يحمل
شيئا /
غير الرئتين وقلبٍ واحد / لكنَّ القلب الواحد يمكنه أن يحمل كل العالمِ / كل العالم في شخص واحدْ "
السيد جلال :
رجل لا يحمل في جوفه إلا قلبا واحدا ورئتين اثنتين ككل البشر إلا أنه قلب يحمل كل هموم العالم !
استمعوا إلى قصيدته " خذني معك
" ص97 والتي يرثي فيها الملحن الكبير " عبد المقصود علي " ـ رحمه الله
ـ لتروا معي كيف ذاب المرثيُّ مع الراثي ـ والمتوفيُّ مع الحيِّ ، حتى لكأني به يرثي
نفسه ، ولعل في العنوان ما يشي بذلك ، بل وقفة
إحصائية مع حقل الكلمات التي اعتمد عليها الشاعر يرينا ـ بما لا يدع مجالا لشك ـ مدى
معاناة السيد جلال الحياتية ، والاجتماعية
، والوطنية ، والوظيفية ، والأسرية ، حيث استخدم الشاعر ما يقرب من ( أربعة وثلاثين
مفردة ) مسكونة بالمعاناة والألم :
( المسافر
ـ الزائلين ـ تركتني ـ سكت ـ الموجوع ـ تطويه ـ النسيان ـ هجرته ـ مرتعش ـ حيران ـ
الشعر الأبيض ـ الأحزان ـ همّ الوطن ـ العمر المسروق ـ هم الفجر الآتي ـ آهات المغتربين
ـ أفتش ـ جناحي المفقود ـ حلم لم يتحقق ـ حبيس ـ تؤلمني ـ الفرقة ـ الموت ـ أبكي ـ
مكتئبا ـ مغمورا بالآلام ـ لن يأتي ـ المهموم
ـ جفاف اللحن ـ دموع وداع ـ بكاءك ـ الوجد
ـ المهاجر ، وأخيرا خذني معك ) .
وزيادة في التأكيد على ما ذهبت إليه اقرءوا قصيدته
" النوة " ص 75 والتي اشتملت على ( واحد وأربعين لفظا ) من نفس الحقل الدلالي
المفعم بالقلق والمعاناة والألم والخوف والشقاء زالفقد والضياع :
( بعثرت
ـ ما أبقيت ـ خانني ـ يخونني ـ خانتني ـ الجروح ـ النازفة ـ خانه ـ الهلاك ـ مشردا
ـ زائغتان ـ لاهثا ـ الراجفة ـ بدت ـ قيدته ـ تركته ـ لجة ـ هشمت ـ الهموم ـ الأحزان
ـ الصداع ـ يشج ـ سواد ـ يطرحه ـ حطام ـ ينتفض ـ طواحين ـ الحروب ـ يختنق ـ أدس ـ مغمضتان
ـ لا حياة قط ـ أسقاما ـ ملح ـ أجاج ـ ينخر ـ النتن ـ حمولا ـ أثقلت ـ يموت ـ الطوفان
) .
هو حقا شاعر يعاني على جميع الأصعدة ، حياتيا
، اجتماعيا ، إبداعيا ، وإن كل حرف يكتبه يمثل عصارة تلك المعاناة التي يتفجر بها عقله
، ويلتهب بها قلبه ، استمعوا إليه في قوله ص94 حيث قصيدته " تغارين " التي
يجمع فيها مفرداته الحياتية التي التصق بها أو التصقت به ( لوحة المفاتيح ـ النت ـ
قلمه ـ هاتفه ـ كتبه ـ حديث الأصدقاء ) في محاولة بائسة منه لأن يطمئن قلب محبوبته
ـ زوجته ـ ألا تغار من وجود كل هذه الأشياء
في حياته ؛ إذ هي ليست سوى زيف ووهم وخداع ، أما أنت أيتها الحبيبة فالحقيقة والصدق
. فأية معاناة تلك التي يعيشها وتعيشه ، يقف خلالها محاولا تقديم براهين الإقناع لتلك
الأنثى ذات الطبيعة التي تتأبَّى على الإقناع ، وتأبى الاقتناع ، حتى وإن حاول اللعب
على دغدغة مشاعرها القلبية بقوله :
"
فأنت الشَّمال وأنت الجنوب / وأنت الشروق وأنت الغروب / وأنت الحياة وأنت الممات /
فبعدك موت ، وبعدَك لا شيء حيْ " فلا
هو بمستطيع إقناعها ، ولا هي أنثى تقبل الاقتناع ، وكأنهما شطرتان لبيتين لا تجتمعان
.
وقصيدته
" حب قبض النار " ص 147 والتي يحاول فيها أن يقنع محبوبته ـ زوجته ـ أنه
لا يبحث عن تجربة حب جديد ، ولا عن بديل عنها ـ رغم ما يمر عليه كل يوم من مغريات ـ
فهي ـ على حد قوله ـ : " أنا لا أبحث عن تجربة أخرى / فأنا في كل صباح / أعرف
أنثى غيرك / أبهى / أنقى / أزكى / ثم يجيء الليل أراها أنتِ / فرحيقك تجربة / لمساتك
تجربة / أنفاسك تجربة / تكتب كل خواطرها فوق سطور فؤادي بالإزميل "
السيد جلال :
نزف
على الورق في كل ما يكتبه من شعر أو قصة أو مسرح ، يكاد ينفجر عقله من كم الحقائق التي أحاط بها علما ، ويصيق صدره
من كم الانفعالات التي يغلي بها .. ولعل قصيدته " عصب البيت " التي ارتضاها
عنوانا لديوانه تؤكد لنا ذلك ، استمعوا لقوله منها ص128 وهو يرى صدره المكشوف ، واليتم القاهر بعد موت أمه
:
"
لا صدر الآن ورائي / لا حضن / موعود منذ نعومة
أظفاري أن أجلد / أن أحرم / أن يطحنني الغم / ويبعثرني فوق مياه جارية باليم
" وهو ـ عبثا ـ يحاول أن يجمع عِقد الأسرة
بعد أن انفرط :
"
حاولت كثيرا يا أمي / أن اجمع شمل البيت / عبثا حاولت / وجه البيت كئيب وعبوس في وجهي
/ يأبى إلا أن يلفظني .... وبكيت على قدميه طويلا كي يسمعني / حملق في وجهي محتدا
/ ثار علي وروَّعني ... "
حتى
وهو في لحظة لا تتكرر كثيرا وسط زحمة حياتية قاهرة ، حيث يرقص وحبيبته رقصة عيد الميلاد
ص 103 لا تفارقه مفردات العذاب والمعاناة مثل ( الموت ـ الوحدة ـ الآهات )
إنه
شاعر قلق من ماضيه ، قلق من حاضره ، قلق من آتيه ، ولعل مقطوعتيه : " زائر
" ص116 ، و" لا تعتذري " ص 74 ، تبرهنان ، بل هما مرآتان تكشفان تلك
الزاوية القلقة في حياة السيد جلال ؛ حيث نجد الأولى ( زائر ) حبيب لم يدخل إلى قلب
محبوبته إلا من باب الزوار ، رغم أنه يعشقها منذ نعومة أظفاره ، ولكنه حتى اللحظة عاجز
عن سبر مكنونها ، ومعرفة مدنها ، وفتح قلاعها .
وفي
الثانية : ( لا تعتذري ) يكشف عن طبيعة تغيرت ، وسلوك طرأ ، لا يستطيع ـ وهو اليد جلال
المعنيُّ بكل تفصيلة وهمسة ولمسة ـ لا يستطيع أن يغض الطرف عن هذا السلوك ، وذلك التغيير
، ولا يجد إلا النفيس من خلال حروفه .
بصمة فنية
السيد جلال :
صاحب
العقل المفكر ، والقلب المتوهج ، عميق في فكره كما هو عميق في شعره ، ليس من هذا الصنف
من الشعراء الذين يستهويهم مطلع ، أو يحفزهم
تركيب ، أو تأخذهم صورة ، بل هو من ذلك الصنف المفكر الذي يعكف طويلا طويلا
على قصيدته يقلب أوجه معانيها حتى تستقيم له
القصيدة لفظا ومعنى وتركيبا وتصويرا وموسيقا
، وليس معنى ذلك أن شعره ذهني جاف يعلو فيه كعب الفكر على هدير العاطفة ـ حاشاه ذلك
ـ وإنما قصدت أنه ـ أي شعره ـ مزيج من عاطفة
ملتهبة ، وفكر متأنٍ ، لا يقف عند حدود القشرة الظاهرة ؛ لا يزعجه اللهاث خلف تركيب
لغوي ، أو صورة شعرية ، وإنما يشغله ويؤرقه كيف يصل إحساسه ومعانيه إلى المتلقي ـ قارئا
أو مستمعا ـ بدرجة متساوية تماما مع وجودهما
في قلبه وعقله ؛ لذلك فهو لا يختبئ وراء بهرجة لفظية فارغة ، أو صورة غير منطقية وإن
بدت مبتكرة ـ أو موسيقا زاعقة صاخبة ، بل بهمس بالحرف وبالتراكيب وبالصور وبالموسيقا
، يجمع مادة صورته من مفرداته الحياتية وواقعه المعيش بعيدا عن إسفاف التفعيليين وجنوح
الحداثيين ، اسمتعوا لقوله ص 132 كمثال لما
قلت ، حيث تطل علينا مفردات تنقلنا لصحن بيت ريفي حيث نرى ( فرن الخبز ، الفطير المعجون
بالسكر ، البطاطا الساخنة ، السمك البلطي ، الذرة المشوي ) .
إنه
يعتمد بمتياز في رسم عالمه الشعري على مفرداته الحياتية ، وصوره الواقعية التي يعيشها
ويعايشها ، وصياغات وتراكيب سهلة التناول تصل بما يجيش به لنفس المتلقي في سهولة ويسر
، لا يقف كثيرا عن حدود البلاغة القديمة من تشبيهات واستعارات وكنايات ، أو تراكيب
محبوكة السبك ، أو ألفاظ معجمية قوية ، هذا بالرغم من حفاظه على لغته ، وهضمه لتراثه
.
وأختتم تلك التطوافة العجلي مع الديوان مع قصيدته
الرائعة الماتعة ( ميلاد قلب ) ص 41 والتي تؤكد ما بدأت به من أن السيد جلال صنف من
الشعراء لا يقتله عذابه ـ وإن تألم ـ ولا يسلبه شقاؤه ـ وإن اكتوى ـ ولا يحاول الهروب
ـ وإن تأذى ـ وإنما هو الباحث عن المثالية والنبيل والفضيلة، الباحث عن عالم كله حب، يجتمع فيه كل قلبين معا، ويحلقان في نعيم وسعادة ، وقد اختفى من قاموسه اللغوي تماما
كلمات: الموت والنهاية والفراق والفقد واليتم ونحو ما كان من قبل، يقول فيها :
"
اصدقيني .. / هل هداك القلب لي / مثلما قلبي هداني / إن دعاكِ الشوق حقا / فابعديني
الآن / عن هذا الوجود / واحتويني بين جفنيك / احفريني كلمات / فوق صفحات الفؤاد / ذا
فؤادي في يديكِ / اغسليه الآن من أحزانه / عوديه الفرح دوما من جديد / ذوبي كل الجليد
/ وكفاني / ها أنا قد عدت طفلا / طاهر النفس / نقي القلب والروح / كالفراشات أطير العمر
/ طلقا في ارتياحِ / أحمل الحب كتابا صادقا للكون / مسطورا هنا فوق جناحي / ثم أعدو
ألثم الزهر نديا / في مساء وصباح / اصدقيني .. / أي سحر مس قلبي / صار كالعصفور حرا
/ طار مني في الهواء / طار حتى / صار نجما في السماء / قد بنى عشا لروحينا هناك / في
الفضاء / اصدقيني .. ذوِّبيني / ذوبيني كالجليد / ذوبي ثلح حيائي " .