وصف المدون

مجتمع بوست مدونة اجتماعيه توعوية إخبارية تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها شتى الموضوعات التى تهم الأسرة والمجتمع العربي,أخبار,ثقافة,اتيكيت,كتب,علوم وتكنولوجيا,مال وأعمال,طب,بيئة

إعلان الرئيسية

 

قَدر الشعراء أن يحملوا هما فوق هم ، فهم مهمومون دائما ، إما بهمهم الخاص أو بهموم العامة التي تؤرق مضاجعهم وتقلق حروفهم ، والشعراء الشعراء تجاه تلك الهموم نجدهم أصنافا :

 

قراءة في  ديوان "عصب البيت" للشاعر الكبير السيد جلال


   ـ  صنفا تأخذه همومه ، ويتملكه بؤسه ، ويفنيه شقاؤه ، ويقعد به حظه العاثر ، فيسلم أو يستسلم ، كما كان الحال مع شاعر البؤس " عبد الحميد الديب " الذي فقد الإرادة والعزيمة أمام بؤسه وفقره وشقائه ؛ فأضاع نفسه وشعره ، يقول :

 

" وهام بي الأسى والبؤس حتى   كأني عبلة والبؤس عنترْ "

  ـ وصنفا آخر يجد عزاءه وسلواه في الكأس والحسناوات ؛ فينطلق يغني لهما ـ وكأنه يهرب من همومه وأوجاعه إلى رحابة الكأس وطراوة الحسن ، كما هو الحال مع الملاح التائه " علي محمود طه " الذي يقول :

" حياتي قصة بدأت بكأس    لها غنَّيْتُ وامرأة جميلةْ "

 

ـ صنفا ثالثا ـ وقليل ما هم ـ يعانون ولا يستسلمون ، يواجهون ولا يهربون ، يقتلون أنفسهم تفكيرا بحثا عن حلول لما تواجهه الإنسانية من عذاب وشقاء ، يذوبون أملا في إيجاد بصيص من نور يلمع هنا أو يضوي هناك ، تثقفوا فوظفوا ثقافتهم ، تعلموا فنشروا علمهم ، أدركوا ببصيرتهم ما لا يدركه غيرهم فراحوا يبصرون ويرشدون ويهدون ، ومن هؤلاء يقف شاعرنا الكبير " السيد جلال " في  زاوية تتيح له أن يرى الصورة بوضوح فينفذ إلى ما خلف البادي للعيان ، ومن هنا كانت معاناته ، ومن هنا كان شقاؤه ، ومن هنا كان بؤسه ، ومن هنا كان عذابه ، يقول في مقطوعته الشعرية القصيرة في مبناها العميقة في معناها  " رحابة "  ص 131  :  " قد لا يتسع الصدر  / لأن يحمل شيئا  /  غير الرئتين وقلبٍ واحد / لكنَّ القلب الواحد يمكنه أن يحمل كل العالمِ  / كل العالم في شخص واحدْ " 

 

 السيد جلال :

رجل لا يحمل في جوفه إلا قلبا واحدا ورئتين اثنتين ككل البشر إلا أنه قلب يحمل كل هموم العالم !    

 

       استمعوا إلى قصيدته " خذني معك " ص97 والتي يرثي فيها الملحن الكبير " عبد المقصود علي " ـ رحمه الله ـ لتروا معي كيف ذاب المرثيُّ مع الراثي ـ والمتوفيُّ مع الحيِّ ، حتى لكأني به يرثي نفسه ، ولعل في العنوان ما يشي بذلك  ، بل وقفة إحصائية مع حقل الكلمات التي اعتمد عليها الشاعر يرينا ـ بما لا يدع مجالا لشك ـ مدى معاناة  السيد جلال الحياتية ، والاجتماعية ، والوطنية ، والوظيفية ، والأسرية ، حيث استخدم الشاعر ما يقرب من ( أربعة وثلاثين مفردة ) مسكونة بالمعاناة والألم :

 

( المسافر ـ الزائلين ـ تركتني ـ سكت ـ الموجوع ـ تطويه ـ النسيان ـ هجرته ـ مرتعش ـ حيران ـ الشعر الأبيض ـ الأحزان ـ همّ الوطن ـ العمر المسروق ـ هم الفجر الآتي ـ آهات المغتربين ـ أفتش ـ جناحي المفقود ـ حلم لم يتحقق ـ حبيس ـ تؤلمني ـ الفرقة ـ الموت ـ أبكي ـ مكتئبا ـ مغمورا بالآلام  ـ لن يأتي ـ المهموم ـ جفاف اللحن ـ دموع وداع ـ بكاءك ـ  الوجد ـ المهاجر ، وأخيرا خذني معك ) .

 

  وزيادة في التأكيد على ما ذهبت إليه اقرءوا قصيدته " النوة " ص 75 والتي اشتملت على ( واحد وأربعين لفظا ) من نفس الحقل الدلالي المفعم بالقلق والمعاناة والألم والخوف والشقاء زالفقد والضياع :

 

( بعثرت ـ ما أبقيت ـ خانني ـ يخونني ـ خانتني ـ الجروح ـ النازفة ـ خانه ـ الهلاك ـ مشردا ـ زائغتان ـ لاهثا ـ الراجفة ـ بدت ـ قيدته ـ تركته ـ لجة ـ هشمت ـ الهموم ـ الأحزان ـ الصداع ـ يشج ـ سواد ـ يطرحه ـ حطام ـ ينتفض ـ طواحين ـ الحروب ـ يختنق ـ أدس ـ مغمضتان ـ لا حياة قط ـ أسقاما ـ ملح ـ أجاج ـ ينخر ـ النتن ـ حمولا ـ أثقلت ـ يموت ـ الطوفان ) .

 

      هو حقا شاعر يعاني على جميع الأصعدة ، حياتيا ، اجتماعيا ، إبداعيا ، وإن كل حرف يكتبه يمثل عصارة تلك المعاناة التي يتفجر بها عقله ، ويلتهب بها قلبه ، استمعوا إليه في قوله ص94 حيث قصيدته " تغارين " التي يجمع فيها مفرداته الحياتية التي التصق بها أو التصقت به ( لوحة المفاتيح ـ النت ـ قلمه ـ هاتفه ـ كتبه ـ حديث الأصدقاء ) في محاولة بائسة منه لأن يطمئن قلب محبوبته ـ زوجته ـ  ألا تغار من وجود كل هذه الأشياء في حياته ؛ إذ هي ليست سوى زيف ووهم وخداع ، أما أنت أيتها الحبيبة فالحقيقة والصدق . فأية معاناة تلك التي يعيشها وتعيشه ، يقف خلالها محاولا تقديم براهين الإقناع لتلك الأنثى ذات الطبيعة التي تتأبَّى على الإقناع ، وتأبى الاقتناع ، حتى وإن حاول اللعب على دغدغة مشاعرها القلبية بقوله :

 

" فأنت الشَّمال وأنت الجنوب / وأنت الشروق وأنت الغروب / وأنت الحياة وأنت الممات / فبعدك موت ، وبعدَك لا شيء حيْ "   فلا هو بمستطيع إقناعها ، ولا هي أنثى تقبل الاقتناع ، وكأنهما شطرتان لبيتين لا تجتمعان .

 

وقصيدته " حب قبض النار " ص 147 والتي يحاول فيها أن يقنع محبوبته ـ زوجته ـ أنه لا يبحث عن تجربة حب جديد ، ولا عن بديل عنها ـ رغم ما يمر عليه كل يوم من مغريات ـ فهي ـ على حد قوله ـ : " أنا لا أبحث عن تجربة أخرى / فأنا في كل صباح / أعرف أنثى غيرك / أبهى / أنقى / أزكى / ثم يجيء الليل أراها أنتِ / فرحيقك تجربة / لمساتك تجربة / أنفاسك تجربة / تكتب كل خواطرها فوق سطور فؤادي بالإزميل "

 

  السيد جلال :

نزف على الورق في كل ما يكتبه من شعر أو قصة أو مسرح ، يكاد ينفجر عقله  من كم الحقائق التي أحاط بها علما ، ويصيق صدره من كم الانفعالات التي يغلي بها .. ولعل قصيدته " عصب البيت " التي ارتضاها عنوانا لديوانه تؤكد لنا ذلك ، استمعوا لقوله منها ص128  وهو يرى صدره المكشوف ، واليتم القاهر بعد موت أمه :

 

" لا صدر الآن ورائي  / لا حضن / موعود منذ نعومة أظفاري أن أجلد / أن أحرم / أن يطحنني الغم / ويبعثرني فوق مياه جارية باليم "  وهو ـ عبثا ـ يحاول أن يجمع عِقد الأسرة بعد أن انفرط :

 

" حاولت كثيرا يا أمي / أن اجمع شمل البيت / عبثا حاولت / وجه البيت كئيب وعبوس في وجهي / يأبى إلا أن يلفظني .... وبكيت على قدميه طويلا كي يسمعني / حملق في وجهي محتدا / ثار علي وروَّعني ... "

حتى وهو في لحظة لا تتكرر كثيرا وسط زحمة حياتية قاهرة ، حيث يرقص وحبيبته رقصة عيد الميلاد ص 103 لا تفارقه مفردات العذاب والمعاناة مثل ( الموت ـ الوحدة ـ الآهات )

 

إنه شاعر قلق من ماضيه ، قلق من حاضره ، قلق من آتيه ، ولعل مقطوعتيه : " زائر " ص116 ، و" لا تعتذري " ص 74 ، تبرهنان ، بل هما مرآتان تكشفان تلك الزاوية القلقة في حياة السيد جلال ؛ حيث نجد الأولى ( زائر ) حبيب لم يدخل إلى قلب محبوبته إلا من باب الزوار ، رغم أنه يعشقها منذ نعومة أظفاره ، ولكنه حتى اللحظة عاجز عن سبر مكنونها ، ومعرفة مدنها ، وفتح قلاعها .

 

وفي الثانية : ( لا تعتذري ) يكشف عن طبيعة تغيرت ، وسلوك طرأ ، لا يستطيع ـ وهو اليد جلال المعنيُّ  بكل تفصيلة وهمسة ولمسة ـ  لا يستطيع أن يغض الطرف عن هذا السلوك ، وذلك التغيير ، ولا يجد إلا النفيس من خلال حروفه .

 

بصمة فنية

السيد جلال :

صاحب العقل المفكر ، والقلب المتوهج ، عميق في فكره كما هو عميق في شعره ، ليس من هذا الصنف من الشعراء الذين يستهويهم مطلع ، أو يحفزهم  تركيب ، أو تأخذهم صورة ، بل هو من ذلك الصنف المفكر الذي يعكف طويلا طويلا على قصيدته  يقلب أوجه معانيها حتى تستقيم له القصيدة  لفظا ومعنى وتركيبا وتصويرا وموسيقا ، وليس معنى ذلك أن شعره ذهني جاف يعلو فيه كعب الفكر على هدير العاطفة ـ حاشاه ذلك ـ وإنما قصدت أنه ـ أي شعره ـ  مزيج من عاطفة ملتهبة ، وفكر متأنٍ ، لا يقف عند حدود القشرة الظاهرة ؛ لا يزعجه اللهاث خلف تركيب لغوي ، أو صورة شعرية ، وإنما يشغله ويؤرقه كيف يصل إحساسه ومعانيه إلى المتلقي ـ قارئا أو مستمعا ـ  بدرجة متساوية تماما مع وجودهما في قلبه وعقله ؛ لذلك فهو لا يختبئ وراء بهرجة لفظية فارغة ، أو صورة غير منطقية وإن بدت مبتكرة ـ أو موسيقا زاعقة صاخبة ، بل بهمس بالحرف وبالتراكيب وبالصور وبالموسيقا ، يجمع مادة صورته من مفرداته الحياتية وواقعه المعيش بعيدا عن إسفاف التفعيليين وجنوح الحداثيين ، اسمتعوا لقوله  ص 132 كمثال لما قلت ، حيث تطل علينا مفردات تنقلنا لصحن بيت ريفي حيث نرى ( فرن الخبز ، الفطير المعجون بالسكر ، البطاطا الساخنة ، السمك البلطي ، الذرة المشوي ) .

 

إنه يعتمد بمتياز في رسم عالمه الشعري على مفرداته الحياتية ، وصوره الواقعية التي يعيشها ويعايشها ، وصياغات وتراكيب سهلة التناول تصل بما يجيش به لنفس المتلقي في سهولة ويسر ، لا يقف كثيرا عن حدود البلاغة القديمة من تشبيهات واستعارات وكنايات ، أو تراكيب محبوكة السبك ، أو ألفاظ معجمية قوية ، هذا بالرغم من حفاظه على لغته ، وهضمه لتراثه .

 

  وأختتم تلك التطوافة العجلي مع الديوان مع قصيدته الرائعة الماتعة ( ميلاد قلب ) ص 41 والتي تؤكد ما بدأت به من أن السيد جلال صنف من الشعراء لا يقتله عذابه ـ وإن تألم ـ ولا يسلبه شقاؤه ـ وإن اكتوى ـ ولا يحاول الهروب ـ وإن تأذى ـ وإنما هو الباحث عن المثالية والنبيل والفضيلة، الباحث عن عالم كله حب، يجتمع فيه كل قلبين معا، ويحلقان في نعيم وسعادة ، وقد اختفى من قاموسه اللغوي تماما كلمات: الموت والنهاية والفراق والفقد واليتم ونحو ما كان من قبل، يقول فيها :

 

" اصدقيني .. / هل هداك القلب لي / مثلما قلبي هداني / إن دعاكِ الشوق حقا / فابعديني الآن / عن هذا الوجود / واحتويني بين جفنيك / احفريني كلمات / فوق صفحات الفؤاد / ذا فؤادي في يديكِ / اغسليه الآن من أحزانه / عوديه الفرح دوما من جديد / ذوبي كل الجليد / وكفاني / ها أنا قد عدت طفلا / طاهر النفس / نقي القلب والروح / كالفراشات أطير العمر / طلقا في ارتياحِ / أحمل الحب كتابا صادقا للكون / مسطورا هنا فوق جناحي / ثم أعدو ألثم الزهر نديا / في مساء وصباح / اصدقيني .. / أي سحر مس قلبي / صار كالعصفور حرا / طار مني في الهواء / طار حتى / صار نجما في السماء / قد بنى عشا لروحينا هناك / في الفضاء / اصدقيني .. ذوِّبيني / ذوبيني كالجليد / ذوبي ثلح حيائي " .

 

الشاعر / محمد حافظ حافظ

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

Back to top button