وصف المدون

مجتمع بوست مدونة اجتماعيه توعوية إخبارية تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها شتى الموضوعات التى تهم الأسرة والمجتمع العربي,أخبار,ثقافة,اتيكيت,كتب,علوم وتكنولوجيا,مال وأعمال,طب,بيئة

إعلان الرئيسية






أدب الرسائل .. فن يتلاشى تحت زحف الرقمنة


أدب الرسائل .. فن يتلاشى تحت زحف الرقمنة





يتجه أدب الرسائل في العصر الحديث صوب الاندثار، بفعل عجلة التقدم التكنولوجي الذي لم يؤّمن مكانا ملائما لأنواع أدبية، لم تعد أركانها تواكب مقتضيات العصر الحديث، بعدما أفضت الطفرات التكنولوجية المتلاحقة إلى تذويب الزمان والمكان الركيزتين الأساسيتين لفن المراسلة، ليتراجع هذا النوع الأدبي فاسحا المجال لأشكال جديدة من المراسلات، وليدة العصر الرقمي بامتياز.


يصعب التأريخ لبدايات ظهور هذا الفن الأدبي الراقي، لكن الإجماع منعقد على أن الرسائل كانت مقدمة لفن المقال الأدبي النثري قديما، كما أنها شكلت رافدا مهما في التراث الأدبي الإنساني، لعب دورا مؤثرا في الكشف عن جوانب ومناطق مهمشة في هذا التراث، بما تضمنته من أفكار ورؤى ومشاعر وجدانية.


كان للعرب القدامى باع طويلة في فن المراسلات، فأبدعت في وضع القواعد والأسس، وحتى العناصر الواجب التقيد بها "المرسِل والمرسَل إليه والتحية والعنوان والمقدمة والموضوع والخاتمة والتوقيع والتاريخ"، وميزت في هذا النوع الأدبي بين قسمين: الرسائل الديوانية، وتسمى أيضا الرسائل الرسمية أو العامة، والرسائل الإخوانية، وتعرف باسم الرسائل الشخصية أو الخاصة. وبلغ أدب الرسائل ذروته، في أواسط العصر العباسي، بعد إنشاء ديوان خاص يسمى ديوان الإنشاء، يتولى شؤون رئاسته أديب، يكون خبيرا بفنون الكتابة الأدبية.


انعكس اهتمام الدولة وعنايتها بفن المراسلات على تلقي العامة له، فازداد الإقبال والعناية به، وكثر المهتمون به ما دام متقنه مطلوبا في دواوين وأجهزة الدولة، وساعد ذلك على ظهور أعمال إبداعية خالدة، حمل بعضها لفظ الرسائل بدلالات مختلفة، ففي كتب التراث ضروب من الرسائل الشخصية والأدبية والعلمية، مثل "رسائل الجاحظ"، "رسائل ابن المقفع"، "رسالة التوابع والزوابع"، "رسالة الغفران"، "رسائل ابن عربي"، "رسائل إخوان الصفا"، "رسائل بديع الزمان الهمذاني"، "رسائل أبي بكر الخوارزمي"، و"رسائل ابن زيدون".


في الحقبة المعاصرة، كان لانتشار الطباعة وتطور البريد دور كبير في رواج هذا الشكل الأدبي، فظهرت في الساحة الثقافية العربية أعمال تنتمي بشكل حصري إلى أدب الرسائل، وكان نصيب الشهرة الأكبر للرسائل الثنائية بين المرأة والرجل، من قبيل: رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، في كتاب "الشعلة الزرقاء"، ورسائل غرامية بمسحة ثقافية، بلغ عددها 17 رسالة بين الناقد أنور المعداوي والشاعرة فدوى طوقان، وأيضا مراسلات غادة السمان مع غسان كنفاني من ناحية، ومع الكاتب أنسي الحاج من ناحية أخرى.

في المقابل، قل الاهتمام بالرسائل المتبادلة بين الكتاب، ففي الثمانينيات مثلا تبادل محمود درويش وسميح القاسم رسائل بينهما، على صفحات مجلة اليوم السابع التي كانت تصدر في باريس، وكذلك كان الأمر بين المفكر المغربي محمد عابد الجابري والمصري حسن حنفي.


ويبقى كتاب "ورد ورماد" الذي ضم رسائل متبادلة بين الروائيين المغربيين محمد برادة ومحمد شكري، في الفترة ما بين 1975 و1994 أبرز ما نشر في هذا المجال. وعلق برادة على هذا الشح والندرة، في تصدير الكتاب، بقوله، "... أظن أن كتابة الرسائل تستجيب للحظات جد حميمية، نستشعر فيها رغبة البوح والمكاشفة والتفكير بصوت مرتفع. ومع الأسف إن تقاليدنا في المراسلات بين الأصدقاء المبدعين قليلة إلم تكن منعدمة، ومن ثم وجدت، ومعي الصديق شكري، أن نشر هذه الرسائل قد يكون مضيئا لبعض التفاصيل التي التقطتها الرسائل وهي في حالة مخاض، وقد يرسم ملامح أخرى لا يتسع لها النص الإبداعي".


فضل مبدعون الابتعاد عن الثنائيات، فنشروا رسائلهم في كتب، منها رسائل جيل بأكمله بأبعادها السياسية والاجتماعية، في "كتابات نوبة الحراسة" للروائي المصري عبد الحكيم قاسم، و"رسائل الأحزان" لمصطفى صادق الرافعي، ولدى توفيق الحكيم نذكر "زهرة العمر"، واختار كتاب آخرون تخصيص فصول في مؤلفاتهم لأدب الرسائل، كما كانت الحال مع طه حسين في كتاب "الأيام" من خلال رسالته إلى ابنه، وعلى المنوال ذاته سار الشاعر السوري أدونيس في "ها أنت أيها الوقت"، حيث ضمن فصولا من كتابه رسائل إلى أصدقائه خصوصا يوسف الخال، وأحسن الكاتب جبرا إبراهيم جبرا توظيف أدب الرسائل في عدد وافر من أعماله.


في الزمن الحديث، يذهب تيار من النقاد إلى أن أدب الرسائل باق، وينتشر أكثر من أي وقت مضى، بعدما شهد تغييرا كبيرا في الشكل والمضمون والوسيلة، دون أن يلحق الجوهر أي تغيير، فالتكنولوجيا الحديثة لم تغير سوى شكل الرسائل التقليدية التي كانت تكتب على الورقة بالقلم، وبدلا عنها صار بإمكان الأدباء الآن استخدام الحوامل الإلكترونية لكتابة رسائل تصل على البريد الخاص، مع الاحتفاظ بالنص والتاريخ مهما كان طوله أو قدم تاريخه، أو بعد مسافة الطرف الآخر "المرسَل إليه".


تفتقد وجهة النظر هذه إلى القوة على مستوى الإقناع، فالقول إن الفارق بين المراسلات التقليدية والرقمية هو الوسيط، ينم عن جهل كبير بجوهر هذا الفن، فأدب الرسائل الكلاسيكي يتيح أمام المرسِل فرصة حوار ذاتي طويل، ويسمح بترك مساحة ممتدة لدى المتلقي ليستوعب ما يقرأه، ويحتفظ كل طرف منهما بمركزه في العملية لمدة زمنية... كل هذه العناصر وأشياء أخرى تثمل جوهر هذا الأدب.


تتم التضحية بكل ما سبق في الرسائل الرقمية، فالحوار الذاتي ينقلب إلى رسائل، يتم الرد عليها سريعا، وتحولت الرسائل إلى حوار مفتوح "دردشة"، يتبادل فيه الطرفان المحادثة، فيصبح كل منهما مرسِلا ومرسَلا إليه في الوقت نفسه، وانتهت مركزية المرسِل وهامشية المستقبل، وتحولت الرسالة من خطاب أحادي، ينتجه شخص ما "المرسِل"، ويتلقاه شخص آخر "المرسَل إليه"، إلى نص أو بالأحرى كتابة شذرية مشتركة، تفتقد إلى الأسلوب الرصين والسمات الفنية، ما أدى إلى ضعف لغة التخاطب واستسهالها، علاوة على الأخطاء في الإملاء، والتقتير في علامات الترقيم أثناء الخطاب.


صفوة القول، إن أدب الرسائل يتجه إلى تكرار سيناريو فن المقامة، الذي تخلى عن مكانه لفنون إبداعية أخرى مثل المسرح والشعر، لكن تخلي أدب الرسائل، لن يكون لمصلحة فن إبداعي جديد، بقدر ما سيكون لأجهزة ذكية وشاشات مضيئة، تجمد الإحساس وتقتل الإبداع.



المصدر: جريدة الاقتصادية السعودية


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

Back to top button