وصف المدون

مجتمع بوست مدونة اجتماعيه توعوية إخبارية تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها شتى الموضوعات التى تهم الأسرة والمجتمع العربي,أخبار,ثقافة,اتيكيت,كتب,علوم وتكنولوجيا,مال وأعمال,طب,بيئة

إعلان الرئيسية

الفنان التشكيلي لطفي الطنبولي.. عازف سيمفونية الأنغام المصورة


مجتمع بوست : الفنان التشكيلي لطفي الطنبولي.. عازف سيمفونية الأنغام المصورة



لطفي الطنبولى.. اسم تردد بتقدير وإعجاب عام 1947 في الصحافة الفرنسية والمحلية المصرية، مثلما ظل يتردد فيما بعد، طوال الستينات والسبعينات، فى مجالي فن التصوير والآثار المصرية، ومازالت أصداء نبضاته الفنية والإبداعية تتدفق بالحياة كجزء من نبضات تاريخ مصر وتراثها الفني والعلمي في العصر الحديث.
ففي عام 1947 أشترك لطفي الطنبولى فى الصالون الحادي والثلاثين للجمعية الفنية لهيئة البريد فى فرنسا: الذي أقيم فى باريس طوال شهري مايو – يونيو 1947 وكان الطنبولى هو الفنان المصري الوحيد الذي شارك فى هذا المعرض، كما كانت من أوائل المرات التي تشترك فيها مصر فى معرض دولي فى فرنسا.

وكان لصالون عام 1947 أهمية خاصة، إذ أنها المرة الأولى التي يقام فيها هذا المعرض على المستوى العالمي منذ إنشاء تلك الجمعية الفنية عام 1902 ولقد ساهمت فيه خمس عشر دولة، منها الولايات المتحدة وبريطانيا والصين وفنلندا وإيطاليا وبولندا، وبلغ عدد من مثلها من الفنانين سبعة وثمانين فناناً- بخلاف الذين مثلوا فرنسا بمختلف مقاطعاتها وعددهم مائة وسبعة وعشرون فناناً.

الفنان التشكيلي لطفي الطنبولي.. عازف سيمفونية الأنغام المصورة
الجمال


تم افتتاح المعرض في الرابع والعشرين من شهر مايو سنة 1947، وكان يضم سبعمائة لوحة تمثل مختلف المجالات التشكيلية وقد اشترك الفنان لطفي الطنبولى بإثنى عشر لوحة عرضت تحت الأرقام المسلسلة من 511 حتى 522، وكانت هذه اللوحات تمثل أكبر مجموعة سمح بها لفنان واحد، إذ تراوح اختيار عدد الأعمال المعروضة ما بين لوحة أو لوحتين فى المتوسط، وأحياناً خمس أو ست لوحات، واثنان فقط عرضت لهما عشر لوحات هما فنانة فرنسية وفنان أمريكي، ولاشك فى أن اختيار إثنى عشر لوحة من أعمال الطنبولى يعد فى حد ذاته تكريماً وتقديراً لفنه ولبلده العريق مصر، وحصل لطفي على المرتبة الأولى للعارضين الأجانب، فتقبلها بصمته المألوف، بلا أية طنطنة أو صخب، فتلك كانت عادته فى مواجهة الأحداث.
كانت المجموعة التى شارك بها لطفي الطنبولى تتكون من اللوحات التالية:
رسم لوجه "غلام" بالقلم الرصاص، ووجه لفتاة "مديحة" بالألوان الباستيل وعشر لوحات زيتية تحمل الأسماء التالية: "المولد النبوي" و"قهوة بلدي"، "الصيادون"، وجه فى الظلام"، "أشجار"، "سعد"، "فى الذكرى"، "من القرية" "مسجد أبو مندور برشيد"، و"إبداع".

الفنان التشكيلي لطفي الطنبولي.. عازف سيمفونية الأنغام المصورة
الفتاة والعنزة

ترحيب غربي

لقد كتب عنها الناقد الفرنسي موريس دلفيو، الذي كان أول من قدم لهذا الصالون قائلاً:
قدم الفنان الطنبولى "مصر" مجموعة من الثراء والتنوع لدرجة تدفع إلى الغرابة والإعجاب، فكل لوحاته تستحق الذكر، لمستواها ونوعية الدراسة الجادة التي تنم عنها وعمق ما فيها من فكرة، ففي هذه السيمفونية الغزيرة التي تردد فيها شتى الأنغام بصورة لم يتوقعها المرء، لم يغفل الفنان أي شئ فكل ما هو إنساني تم التعبير عنه بصورة صادقة حقيقية تهز الأعماق مباشرة حقاً، إن لطفي الطنبولى لفنان مبدع.

وكتبت مجلة "أرتستيكا" الصادرة فى 31 مايو 1947، تحت عنوان "الفن فى باريس":
يعد الفنان لطفي الطنبولى من بين العارضين، فناناً ذا شخصية مميزة بكل تأكيد، وجميع لوحاته مستوحاة من مصر، مناظر طبيعية لضفاف النيل، ومجموعات فى تكوينات جمعية لصيادين أو عمال تنم عن أن فن التصوير يجرى فى دمائه، وأنه يعايش ويتذوق هذا الفن تماماً والغريب الملفت للنظر أنه لا توجد أية آثار للمحاكاة أو التأثر بأحد كأن عدم المحاكاة أو التأثر بالغير قد صار من الأمور اللافتة للنظر منذ ذلك الوقت.

أما الناقد الفني لجريدة " دنيير نوفيل دى ستراسبورج " الصادرة في يونيو 1947 فقد كتب تحت عنوان " الصالون الحادي والثلاثون للجمعية الفنية لهيئة البريد " يقول : من واجبنا الإشادة بصفة خاصة بوجود الفنان لطفي الطنبولي من الإدارة المحلية لهيئة بريد الإسكندرية الذي حضر بنفسه لتقديم لوحاته ,أن السيد الطنبولي ذو مُثل وخيال فني خصب يعبر عنهما بمهارة خاصة متميزة في مناظر شرقية الطابع.
الفنان التشكيلي لطفي الطنبولي.. عازف سيمفونية الأنغام المصورة
قطوف العنب

تقول زوجته الفنانة زينب عبد العزيز: اشتهر لطفي الطنبولي بإصراره الدائم علي التمسك بالأسلوب الواقعي في الرسم , بغية التعبير عن الواقع الذي يعيشه ببساطة ووضوح, بساطة تكشف عن شفافية النفس ونقائها ,وبوضوح يحاول دائماً الوصول إلي الجوهر , واستمر اسمه يتردد في المجال الفني منذ ذلك الوقت سواء بإقامة المعارض الفردية أو باشتراكه في المعارض الجماعية.

ومنذ بداية مشواره الفني حتى آخر لحظة عاشها في ذلك المجال , لم يتغير موقفه من الفن أو من المفهوم الإنساني للفن ورسالته, وهنا يمكن القول بانه كان من الفنانين القلائل الذين لم تجذبهم لعبة التجريد وعبثياته.
الآثار المصرية
أما في مجال الآثار، أي الجانب الآخر الذي أثبت فيه جدارته وقدرته فقد كان لطفي الطنبولى من العاملين البارزين فى ميدان الآثار المصرية، ومن العناصر التي تركت بصماتها الإيجابية البناءة فى هذا الحقل منذ تعيينه عام 1955 حتى تقاعده قبل سن المعاش ليتفرغ للفن.

ومن أهم الإنجازات التي حققها كأثري، أنه كان من الدعائم الأساسية إن لم يكن الدعامة الحقيقية التي قام عليها مركز تسجيل الآثار المصرية عام 1955، فهو الذي وضع التخطيط الكامل للمنهج العلمي الذي كان على المركز ومختلف أقسامه العلمية أن تبعه في كافة مجالات التسجيل من تصوير فوتوغرافي وفوتوجرادفترى ووصف كامل للأثر، ورفع هندسي ونماذج جصية عادية أو ملونة، وتصميم لمختلف أنواع كروت التسجيل العلمي.. إلخ ولقد كان أول مصري يقوم بالوصف العلمي الكامل لتسجيل الآثار في الموقع، حيث كان هذا المجال قاصراً على الخبراء الجانب، كما كان أيضاً أول مصري يتولى رئاسة قسم النشر في مركز تسجيل الآثار، إذ أن هذا المجال أيضاً كان قاصراً على الخبراء الأجانب.

رأس الطنبولى معظم بعثات تسجيل آثار النوبة، وشغل منصب الأثري المقيم أثناء فك وإعادة تركيب معبدي "أبو سنبل"، وبدأ مشروع فك ونقل معابد "فيلة" بعمل التخطيط العلمي له، وهو من آخر الأعمال الكبرى التي أنجزها قبل تركه مجال الآثار ليتفرغ للفن، وبالإضافة إلى تنظيم اشتراك مصر فى أهم المعارض الأثرية فى الخارج، مثل "مهرجان الفن الزنجي" في داكار، ومهرجان "الفن الأفريقي" فى لاجوس، ومعرض "رمسيس الثاني" فى باريس، ومعرض "ملوك وملكات من مصر القديمة" فى اليابان، وشارك لطفي بأبحاثه العلمية فى المؤتمرات الأثرية فى مصر والخارج، وله العديد من المطبوعات المنشورة فى مركز تسجيل الآثار، وفى مجموعة المجلدات العلمية الكاملة، وفى مجموعة النشر العلمي لمعابد النوبة، ومجموعة الكتيبات الثقافية، ومازالت له عدة أعمال لم تنشر يقوم المركز بطبعها.

الفنان التشكيلي لطفي الطنبولي.. عازف سيمفونية الأنغام المصورة
عنقود عنب

المولد والنشأة
 تحكي زوجته الفنانة الدكتورة زينب عبد العزيز وتقول: ولد لطفي الطنبولى أو "محمد عبد اللطيف الطنبولى"، كما يرد أسمه في الأوراق الرسمية، في الثالث عشر من شهر فبراير 1919، في نفس ذلك العام الذي اندلعت فيه ثورة مصر الوطنية لتطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية، وكأن ذلك التاريخ الوطني قد أصبح الإطار الذي ستموج أحداث حياته بداخله، لتمتزج مطالبه بنفس مطالب الحرية والعدالة الاجتماعية، فالاستقلال والعدل هما أهم صفاته العملية والفنية.

كان لطفي يتوسط سبعة من الإخوة وأخت واحدة هي أكبرهم وقد اختلف والده على اسمه، إذ أصر الأب على اختيار اسماً من الأسماء المركبة الشائعة هو "محمد عبد اللطيف" بينما آثرت الأم اختيار أسماً أكثر رومانسية أو أكثر عصرية هو "لطفي" وهكذا تم تدوين أسمه فى شهادة الميلاد: "محمد عبد اللطيف الطنبولى" وظل فى واقع الحياة الأسرية والعملية، فى المدرسة وفى العمل وبين الأصدقاء محتفظاً بذلك الاسم الذي كان يوقع به على لوحاته وعلى كافة معاملاته ما عدا المستندات الحكومية وهو: لطفي الطنبولى.

نشأ لطفي فى أسرة تنوعت جذورها مثل العديد من الأسرات المصرية البورجوازية آنذاك فجده لأبيه من أعيان قرية "طنبول" بالسنبلاوين وجدته لوالدته من سبايا الأتراك الذين حضروا إلى مصر أيام المماليك، وكان والده من كبار تجار البيض ومن كبار مصدريه إلى أسبانيا، تتصف طباعه وتصرفاته فى مجملها –وفقا لما يروى عنه بشخصية "سي السيد" الشهيرة التى عبر عنها نجيب محفوظ في ثلاثيته.. ويحكى أنه كان يمسك بعض من الذهب الخالص . أما والدته فكانت جميلة المُحيا شغوفة بقراءة القصص والروايات فتضافرت معطيات المجالين العملي والأدبي  ليضيفا على طفولة لطفي وخيالاته إمكانيات متنوعة الثراء.

إلا أن القدر قد اختار له طريق المعاناة والمحن .. فما أن بلغ الشهر السادس من عمره حتى أصيب بالربو .. واستمرت تلك المعاناة سنيناً طويلة تعتصره بأزمات متفاوتة الطول والحدة .. ولا يمكن لأحد أن يتصور مدى آلام هذه الأزمات إلا من عاصرها أو شاهدها عن قرب فلا يمر الهواء من الشعُب إلا مصحوباً بصفير حاد ,كأن أحشاء الصدر وأنسجته تتمزق مع كل شهيق , وقد كانت هذه المعاناة تمتد أياماً بأسرها.

الفنان التشكيلي لطفي الطنبولي.. عازف سيمفونية الأنغام المصورة
الراحل لطفى الطنبولي بريشة زوجته الفنانة زينب عبد العزيز


وعند إتمامه الدراسة الثانوية " قسم علمي " اختارته كلية الطب بين طلابها! ولعلها تبدو عبارة مضحكة أن تقوم كلية ما بطلب أو باستدعاء الطلاب المتفوقين ليلتحقوا بها , لكن الأمر كان على هذا الوضع آنذاك ..
وما كاد لطفي يفرح بهذه الدعوة حتى فارقته الابتسامة على التو إذ أن كلية الطب الوحيدة في ذلك الوقت كانت  في القاهرة , وكان هو وقتها مازال من سكان الإسكندرية مما حال دون التحاقه بها ,فاختار فيما بعد قسم الآثار بكلية الإسكندرية , تعميقاً لأحد الجوانب التي كانت تجذبه منذ الصغر.

وواصل دراسته بين مهامه وأعماله الحرة , ثم حصل علي درجة الماجستير بموضوع عن " المناظر الطبيعية في الدولة القديمة " واستكمل نفس الموضوع للحصول على درجة الدكتوراة لكن في " الدولة الحديثة " .
غير أن الروتين المضحك أو المتعنت قد حال دون مناقشة للرسالة !

فحينما حان موعد المناقشة وكان قد انتقل إلي القاهرة كمحاولة أخيرة لعلاج أزمات الربو , فوجئ بإلغاء قيده في جامعة الإسكندرية لتغيير سكنه إلي مدينة القاهرة , وكانت إعادة قيده في جامعة القاهرة يعنى تغيير المشرف , وتغيير المشرف يعني إعادة كتابة الرسالة من جديد ! وكلما سأله أحد الزملاء لماذا لا يعيد القيد ويناقش الرسالة طالما أتمها بالفعل؟ يجيب ببساطة غريبة صادقة : " لقد أتممت العمل واكتسبت فائدته العلمية أما اللقب فلا أهمية له بالنسبة لي " !! ولم تكن مكابرة أو زهو منه فهذا الرد يعبر عن صميم طبعه الإنساني الصادق .


وسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى


المشوار الفني
أما مشواره الفني فقد بدأه منذ الصغر , ومثله مثل  العديد من الأطفال كان الورق والقلم يجذب انتباهه قبل تعلم الكلمات والحوار إلا أن هذه الخطوط العفوية في انحناءاتها وتداخلها معاً كانت تنم عن موهبة فنية تتحسس طريقها إلي النور وسرعان ما وجد في الرسم وسيلة التغبير الأساسية خاصة فيما كانت أزمات الربو تحول بينه وبين الكلام , فكان يستعين بالورقة والقلم ليكتب ما هو بحاجة إليه.

وسرعان ما لفت أنظار مدرس الرسم في المرحلة الابتدائية , فراح يمده ببعض الإرشادات التعليمية ويتولاه بالرعاية وهو يتنقل من القلم الرصاص إلي الأقلام الملونة ثم إلي الألوان المائية والباستيل , قبل أن تتسع مداركه ليقتحم مجال الألوان الزيتية , ومنذ أولى خطواته الفنية وهو لا يهتم إلا بالإنسان .. الإنسان بكل ما يحمله من عوالم في الأعماق, وكل ما يقوم به من أعمال وإنجازات فراح يصور وجوه زملاءه في المدرسة , كما راح يعبر عن كل ما تلتقطه عيناه من مناظر وتكوينات تمثل جزءاً من الحياة اليومية في إيقاعاتها المتلاحقة , المتدفقة, والمتناقضة ..

وعندما وصل إلي بداية التعليم الثانوي , كان مشواره الفني واضح المعالم , شديد الارتباط بالواقع المصري وبالإنسان.. إلا أنه كان مشواراً تمت خطواته بالجهود الذاتية التلقائية, وكان الفنان الشاب بحاجة إلي من يتحاور معه في مختلف الجوانب الفنية , التقنية, وكم كانت دهشة مدرس الرسم حينما أمسك برسوماته بين يديه يتأملها بإمعان وإعجاب ..فلم يكن يتوقع وجود هذه الملكة الفنية بين صفوف تلاميذ السنة الأولى الثانوية, واتسعت أسارير الفنان صلاح طاهر , مدرس الرسم آنذاك , الذي كان في بداية مشواره الوظيفي.

وسرعان ما توطدت روابط الصداقة بينهما, وتتابعت اللوحات بريشة لطفي الطنبولي: لعبة السيجة.. مص القصب.. الزار..الكوديا.. الملاهي.. رمضان.. الفوانيس.. بائع الذرة .. الريف .. الأرض الطيبة الممتدة إلي ما لا نهاية..رعاة الأغنام .. الغازية .. الساقية.. الطنبور..أطفال تمرح.. أطفال تغوص في وحل الترعة..وجوه باسمة, وجوه تعلوها التجاعيد والأسى.. وجوه أثقلتها المحن.. لوحات ولوحات تتولد في إيقاع متواصل تلقائي التعبير والتكوين, تتغنى بالإنسان والبيئة وبالتراث المصري.

كان صلاح طاهر هو أول أستاذ حقيقي يتتلمذ عليه لطفي الطنبولي الذي سرعان ما تولى – حينئذ- رئاسة " جمعية الرسم " في مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية وأصبح رائداً لها, ينمي هوايته ويعاون رفاقه في الدراسة على تنمية مواهبهم الفنية , بالتوجيه والإرشاد عملياً بإتمام اللوحات فعادة ما كان صلاح طاهر يقول للتلميذ في خيلاء :"روح للطنبولي يبص فيها" !! وكأنه اطمأن بعثوره على من يحمل معه عبئه الوظيفي !

لم يكن ارتباط الفنان صلاح طاهر بتلميذه لطفي الطنبولي مجرد ارتباط أستاذ بتلميذ متفوق في مجاله ، لكنها كانت صداقة وكأنها بين أنداد ، صداقة متعددة الجوانب والهويات : ممارسة فن التصوير ، نهم القراءة ، شغف الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيك ، وحب الرياضة ، إلا أن صلاح طاهر كان يمارس هواية "الملاكمة" ولطفي الطنبولي كان يهوي "الجمباز" فتداخلت الأحاديث وامتدت اللقاءات لتتناول الآداب العالمية والفنون والموسيقى والفلسفة لتنعكس بدورها في لوحات تتحول بلا صخب إلي مزيد من العمق والتعبير..

تنوعت تجارب لطفي في حياته العملية واعترتها المحن الطاحنة الصاقلة للنفس. ففي فترة زمنية قصيرة , لا تتعدى الشهور , وعقب إفلاس والده لتحايل أخواه عليه والاستيلاء على ثرواته, آثر لطفي العمل بعد وفاة والده وتم تعينه في مصنع كفر الدوار.. وحالت الظروف دون الاستمرار في المصنع فتم تعينه بوزارة الصحة ليتولى الإشراف على المباخر وعمليات التبخير والتطهير وكانت هذه الفترة من التجارب العنيفة التي عاشها , إذ تصادف تعيينه مع انتشار وباء الطاعون فكانت معاناة من نوع آخر..

وهنا أيضا عجلت مطالبه من أجل تحسين سير العمل والعمال بنقله , أو بمعنى أدق : بفصله. فتم تعيينه في مجال النقل النهري, وكانت تتولاه آنذاك إدارة إنجليزية لم تتحمل أو لم تتقبل هي الأخرى تدخلاته ومطالبه من أجل تحسين نظام العمل والعاملين فيه فلقي نفس المصير,ليتم تعينه في مصلحة البريد بالإسكندرية ولعل الميزة الوحيدة التي خرج بها من تعيينه في المصلحة هي اشتراكه في المعرض الفني الدولي الذي أقيم في باريس!وعند عودته لم يتحمل الروتين الحكومي والجلوس خلف القضبان لاستلام الخطابات وختمها, فقدم استقالته!


بدوية

ورغم عنف المجالات التي عايشها وقسوة الظروف التي تعرض لها, إلا أنه كان دائماً يترجم المعطيات إلي لوحات فنية تقول زوجته الفنانة زينب عبد العزيز: من عاداته الشائعة منذ الصغر الاحتفاظ بنوته صغيرة في جيبه يخط بها انطباعاته عن كل ما يحيط به وكل ما يراه من مناظر أو تكوينات مميزة.

ومثلما صور بعض العادات والتقاليد التي تميزت بها البيئة المصرية , والعديد من أحداث الحياة أليوميه , راح يصور عمال النسيج حول آلاتهم , ووسط التوربينان , مع الخيوط والبالات الضخمة .. كما صور معاناتهم الاجتماعية : وهم يسيرون في الوحل الغائر بروؤس منكسة , أو بظهور محنية تحت عصف الريح وهطول الأمطار ..

كما صور عمال الصحة وهم يكافحون الموت ويحاصرون وباء الطاعون.. حرق مخلفات الموتى في الريف.. تطهير منازل ..أبخر بيضاء تتداخل مع الدخان الأسود والوجوم..ألوان قاتمة يغلفها الموت..
كما انعكست تجربته مع النقل النهري في نوعيات أخرى من الألوان والتكوينات .. مياه النيل المنسابة بحملها العتيق ..صمت العاملين في المركب على السطح أو في القاع ، بلا إمكانيات ..مجرد شذرات في لا مكان ، ولا زمان ..وابورجاز ..صفيحة سوداء..إناء أكثر سواداً يحيط بها الكُوز والبلاص ..ثياب رثة بالية..شظف العيش القابع في صمت تحت شمس ساطعة وضياء تلهب العيش تحدها حقول ممتدة ..حقول تتعاقب أمامها القرى المتراصة أو المتباعدة .   
                         
مع الآثار وبلاد النوبة
ومثلما انعكست كل تجاربه من قبل وتحولت غلي موضوعات فنية وإلي لوحات, راح يعبر عن كل ما يحيط به في مجال الآثار الذي استغل به وقد ساعدته كثرة أسفاره وتنقلاته من الدلتا إلي صعيد مصر ,وخاصة إلي بلاد النوبة , أيام حملة إنقاذ لآثارها قبل بناء السد العالي , ليغرق ما غرق منها ويُنقذ ما أمكن إنقاذه..ومرة أخرى راح يعايش حياة العمال عن قرب , لكن في مجالات جديدة , فكان بذلك أول من اهتم بتصوير الحياة اليومية في النوبة قبل غرقها.

وكعادته دوماً ,لم يهتم لطفي الطنبولي بالجبال والصحاري الممتدة ,وانهمك في التعبير عن الإنسان النوبي وسط ذلك الشريط الضيق من الخضرة, الممتد مع شاطئ النيل منذ أيام المصريين القدماء ..أعمال الحقل والفلاحة..منازل وزخارف بسيطة تلقائية تتداخل في حيوية وصفاء, فكل قرية من قرى النوبة كانت تتسم بطراز هندسي خاص بها وبألوان وزخارف تميزها عن بقية القرى.

وتراصت اللوحات ..وجوه جادة صارمة ..وجوه حادة الإرادة طيبة..أفراح نوبية ..لوحات تتلاحق لكن في إيقاع يتباطأ , كأن الطنبولي ينتزع اللحظات ليرسم. فمهام الوظيفة تتزاحم, وظروف العمل وعملية الإنقاذ المرتبطة بجدول زمني وبمؤسسات أجنبية دولية لا تسمح بأي تأخير وكلما طالت فترات ابتعاده عن الفرشاة والألوان, ازداد تمسكاً بذلك الحلم الواحد,ولعله كان الحلم الأخير: أن يتفرغ للفن.

ولم يبعده انشغاله بالعمل المتزايد عن الاهتمام بالعمال في النوبة ومراعاة مصالحهم , حتى أنهم أطلقوا علي لقب " البحر" .. " الإنسان البحر" .. وذلك لما كان يحققه لهم من مساعدات إنسانية وما يبديه من معرفة واسعة وإلمام بكل الأمور التي تواجههم . فأياً كانت المصاعب أو المشكلات كان لطفي يجد لها حلاً حاسماً. إلا أن القدر كان لا يزال يكن له أعنف وأصعب تجارب حياته على الإطلاق : فقد تم اعتقاله في أواخر عام 1966م..

لم تمتد فترة الاعتقال طويلاً , إذ تم الإفراج عنه بعد حوالي شهرين مع الاعتذار له بأنه قد اعتقل من باب الخطأ!
ويروي أحد رفاقه في المعتقل كيف قام بترتيب العديد من الالتزامات وتوزيعها على الرفاق في العنبر, حتى يمكنهم التغلب على مرارة الوحدة والصمود لها لا, وخاصة لعدم الغرق في موجات الاكتئاب التي قد لا يُعرف مداها.

وانعكست هذه التجربة بكل ما تحمله من ألم وشعور بالظلم , إلي العديد من الرسومات التي كان يرسمها خلسة, وبعد الإفراج عنه ضمّن ذكرى هذه االرسومات , التي سحبت منه, في لوحة فنيه عنيفة التكوين والمعنى , لعنكب غيهب يتسلط من أعلى اللوحة فوق العديد من الأشخاص والأسوار..وأطلق عليها اسم " الدوامة " ..دوامة اعتقال المثقفين , ومحاولة الاستحواذ على فكرهم.

موقفه من الفن

أما موقف لطفي من الفن، فكان يؤمن بالعمل الجاد، أياً كان مذهبه الفني، لكنه لا يحب الابتذال ولا يقر فكرة البدع الشكلية الاستهلاكية المتكررة، بغية أو بحجة الوصول إلى جديد.. فالجديد الحقيقي في الفن- في نظره- ما كان أوجين ديلاكروا يردده دائماً: "إن الجديد فى الفن هو رؤيا الواقع المعاصر للفنان.. ذلك الواقع الذي لم يكن بالأمس، والذي لن يكون في الغد" لذلك كان شديد الارتباط بالبيئة المصرية، بطبيعتها وتراثها، وبأغلى ما عليها: الإنسان المصري البسيط وهو يعمل فى هدوء ودأب.. فالعمل هو الصفة الجوهرية التي تميز الإنسان، والدعامة الأساسية لكل إبداع وتطور.

ومن هنا فلم يكن بغريب أن تنعكس قيمه ومفاهيمه الإنسانية والفنية على أسلوبه الفني، فبساطة التعبير ووضوح الرؤية هي هدفه، تلك البساطة وذلك الوضوح اللذان نراهما فى لوحاته ويكشفان عن شفافية نفسه وصفائها، فالمقياس الحقيقي للجمال فى رأيه هو الصدق، ولا يعنى به الصدق فى نقل الصورة من الواقع بأمانة حرفية مفتعلة، وإنما ذلك الصدق النابع من العمل والذي يقيم حواراً بينه وبين من يشاهده.

لهذا تتميز لوحاته بذلك الوضوح الصادق الصافي الذي يهز الأعماق في صمت، كاشفاً عن الواقع بمستواه الحضاري، ولعل ذلك هو ما اكتسبه من دراسته للفن المصري القديم وما راح يعبر عنه وفقاً لمفاهيم العصر، أي أنه لم يقلد "الشكل" المصري القديم حرفياً في تفاصيل تكوينه، وإنما تشرب مضمون فلسفته القائمة على البساطة والوضوح، وراح يطبقها في لوحاته.

في الحادي عشر من مايو 1982, رحل الفنان لطفي الطنبولي تقول الفنانة زينب عبد العزيز عن هذه اللحظة: بينما كان يستعد لإقامة معرضه الجديد , انطوت آخر صفحة من صفحاته بابتسامه هادئة .. أبتسام انطبعت على ملامحه
بطمأنينة راضية مرضية , وكأنه تتغنى باستعادة ملامح الإنسان المصري والعمل, ذلك الإنسان الذي مجده في حوالي مائة لوحة , كانت في وداعه وهو يغادرها , محمولاً في صمت رهيب.


قالوا عنه:
* نعمة مصر فى ضوئها المتلألئ المرتعش، وأعظم ما في الحياة هو الارتعاش روحاً وضوءاً ونغماً، وقد استطاع الفنان الراحل لطفي الطنبولى في السنة الأخيرة أن يخطف من ضوء مصر ما أضاء لوحاته، قبل أن يخطفه الموت الذي هو الظلام.. ولطفي الطنبولى في حياته البسيطة بين معابد الفراعنة وأسواق الفلاحين استطاع أن يمزج اللون بالتفاؤل بارتعاشه الحياة

كامل الزهيري

·   أرى الحياة تتدفق مع كل بساطة التعبير لفنان خلط مشاعره مع أصباغ ألوانه ليرسم ويصور الحياة هناك بعد أن سجل بتأثيريته الحلوة حياة ريفنا الأخضر أو تراث المدينة المصرية.. أن فناننا لطفي الطنبولي لقادر بفنه أن يجتاز به إلى مرحلة الخلود.. حياً أو غائباً.

الراحل/ كمال الملاخ

·   الحياة رصيد ينفق منه الإنسان من المهد إلى اللحد.. وبقدر ما ينفق الإنسان من طقته وجهده، بقدر ما يخصم من رصيده مهما قل أو كثر.. ولقد أعطى الفنان لطفي الطنبولى قدراً كبيراً من حياته للعلم وقدراً أكبر للفن.. وكان ما أنفقه محسوباً عليه.. وكثير العطاء قصير العمر ولقد رحل الطنبولى بعد أن هيأ نفسه لعطاء أكبر، لكن المنية كانت أسبق.. وإذا كان الإنسان يحيي بعمله ويموت بعمله.. فإن الطنبولى حي في ضمير "المجاهدة" فقد جاهد فى أنبل معركة .. معركة الفن.. وصمد،، وأخلص.. فى هذه المعركة.

الراحل/ حسين بيكار

*الفنان لطفي الطنبولي هو أحد الفنانين العمالقة الذين خسرتهم مصر في القرن العشرين , رحمه الله رحمة واسعة جزاء صدقة في التعبير وإخلاصه في تسجيل الكثير من نواحي الحياة المصرية .
صلاح نايل

*لكم أحسست بقيمتي كمصري , وأنا بين أعمال الراحل العملاق لطفي الطنبولي وكم سعدت وأنا أطالع وجوه أبناء بلدي وقد جادت بهم فرشاته... وأدعو الله له جنات الخلد مخلداً فيها خلود هذه الأعمال التي تعتبر كنزاً ثميناً لأبناء بلده يسعدون بها عبر الأجيال.
محمد عبد الحميد رضوان وزير الثقافة المصري السابق


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

Back to top button