وصف المدون

مجتمع بوست مدونة اجتماعيه توعوية إخبارية تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها شتى الموضوعات التى تهم الأسرة والمجتمع العربي,أخبار,ثقافة,اتيكيت,كتب,علوم وتكنولوجيا,مال وأعمال,طب,بيئة

إعلان الرئيسية

أنطون تشيكوف.. ساحر القصة القصيرة و"طبيب الكتابة"


أنطون تشيكوف.. ساحر القصة القصيرة و"طبيب الكتابة"


الكاتب الروسي أنطون تشيكوف، هو "ساحر القصة القصيرة" بلا منازع، فقد وصف نقاد الأدب في العالم قصصه ذات الطابع الساخر بأنها "أمثولة لتفاصيل الحياة الصغيرة".
وعاش تشيكوف بين الأدب والطب، حيث عمل ممارسا عاما بعد تخرجه في كلية الطب من جامعة موسكو، وكان يعالج الفقراء في عيادته مجانا، وامتازت شخصيته بقدرة فذة على ملاحظة التفاصيل، إلى حد أنه قال يوما إنه يؤمن بأن "العبقرية هي قوة الملاحظة".

وُلد أنطون بافلوفيتش تشيكوف في 29 يناير 1860 لأسرة كبيرة العدد كانت تعيش في مدينة "تاغانروغ"، وهي ميناء يقع على بحر آزوف جنوب روسيا، وكان والده بقالا، أما والدته فكانت ربة منزل، وقد وصفها تشيكوف فيما بعد في رسائله إلى أصدقائه بأنها "راوية ممتازة" لحكايات الأطفال، وأنه تأثر بها كثيرا كأديب في كتاباته القصصية والروائية بعد ذلك، حتى أنه قال عنها "لقد أخذت روح الكتابة من أمي".

التحق تشيكوف في صباه بمدرسة يونانية، حملت اسمه فيما بعد وبات اسمها "مدرسة تشيكوف" بعدما حظى الأديب بشهرة عالمية، لكنه لم يكن طالبا نجيبا، إذ فشل 15 مرة في امتحان اللغة اليونانية، حتى استطاع أخيرا اجتياز الامتحان في المرة السادسة عشرة، غير أنه اشتهر بين طلاب المدرسة بتعليقاته الساخرة وبراعته في إطلاق الألقاب الساخرة على المعلمين، وكان يكتب "مواقف" قصيرة وقصصا هزلية فكاهية، فُقدت جميعا ولم تعرف طريقها إلى النشر أبدا، لأنه - حسب قوله- "لم يكن يأخذ مسألة الكتابة بالجدية الكافية، بل كان يعتبرها مجرد تسلية لتمضية الوقت".
وكان "أنطون" الصغير عاشقًا للمسرح مُنذ صغره، وحضر أول عرض مسرحي في حياته بعنوان "أوبرا هيلين الجميلة" للموسيقار الشهير باخ عندما كان في الثالثة عشرة من عمره. ومنذ تلك اللحظة أضحى عاشقًا للمسرح، وكان ينفق كل مدخراته لحضور المسرحيات، وكان مقعده المفضل "في الخلف" لأن سعره أقل من المقاعد الأمامية في المسارح. وكان يستمتع بالتمثيل في مسرح الهواة، وكان يؤدي أحيانا أدوارا صغيرة في عروض المسرح المحلي. (1)

وفي رسالة تعود إلى عام 1892، استخدام تشيكوف لفظ "معاناة" لوصف طفولته، قائلا "عندما كنا أنا وإخوتي واقفين في وسط الكنيسة نغني بأصوات ملائكية، وكانت الناس تراقبنا بانفعال، حاسدين والدينا علينا، رغم معاناة الأسرة من الفقر".
وأعلن والد تشيكوف إفلاسه عام 1876 بسبب إفراطه في الحصول على تمويل من البنوك لكي يبنى منزلا جديدا للأسرة، وغادر مدينة "تاغانروغ" مع بعض أفراد العائلة إلى "موسكو" لكي يتجنب التعرض للسجن بسبب الديون، واصطحب كان معه أكبر اثنين من أبنائه وهما "نيكولاي وألكسندر"، وكانا طالبين جامعيين، وعاش باقي العائلة بما فيهم "أنطون" حياة فقيرة في "تاغانروغ"، حيث كانت والدته "مدمرة عاطفيًا وجسديًا" كما وصفها، فلم يبق أمامها إلا بيع ممتلكات الأسرة لإنهاء تعليمه.

بقي تشيكوف في "تاغانروغ" لمدة ثلاث سنوات أخرى، حيث عمل في عدة مهن منها وظيفة "معلم خصوصي"، كما مارس اصطياد وبيع طيور "الحسون"، وكان يبعث بكل "روبل" استطاع أن يدخره إلى موسكو، مشفوعا برسائل "ممزوجة بروح الدعابة لرفع معنويات العائلة".
وخلال هذه الفترة، راح يقرأ في الأدب على نطاق واسع، وشُغف بأعمال ميغيل دي سرفانتس وخصوصا عمله الكبير "دون كيخوته"، وبكتابات إيفان تورغينيف ومعاصره ليو تولستوي، وآرثر شوبنهاور، وغيرهم. وأثناء ذلك أتم تعليمه، وانضم إلى عائلته عام 1879، بعد قبوله في كلية الطب في جامعة موسكو.

وأعال تشيكوف في تلك جميع أفراد أسرته، ودفع الرسوم الدراسية عن إخوته، وكان يكتب "اسكتشات فكاهية" ومقالات قصيرة بشكل يومي في الصحف والمجلات، مقابل أجر زهيد، تحت أسماء مستعارة غريبة مثل "رجل بلا طحال"، أكسبته سُمعة طيبة كمؤرخ ساخر للحياة اليومية في الشارع الروسي العادي.
وفي عام 1884، تخرج تشيكوف في الكلية وعمل طبيبا، واعتبر الطب بعد ذلك مهنته الأساسية، ورغم أنه أحرز القليل من المال من هذه المهنة، وكان يعالج الفقراء في عيادته الصغيرة بأحد أحياء موسكو مجانًا. (2)

استطاع تشيكوف أن يجذب الانتباه على المستوى الأدبي والشعبي، حينما نشر مسرحياته وقصصه ذات الطابع الساخر والتي وصفها نقاد الأدب بأنها "أمثولة لتفاصيل الحياة الصغيرة"، وخصوصا بعد أن كتب عنه الكاتب الروسي الشهير دميتري غريغوروفتش، وقال مخاطبا إياه في مقال نشره بإحدى صحف العاصمة الروسية: "لديك موهبة حقيقية، موهبة تضعك في المرتبة الأولى بين كُتاب الجيل الجديد".
وتضمنت قصصه صوراً فنية مكتملة تنطوي على تحليل عميق للواقع، ويثير بعضها في القارئ، على نحو غير مباشر، مشاعر الرفض للحكم القيصري، ولواقع التفاهة والجشع واللهاث وراء المصالح المادية الدنيئة.

وتتجلى في هذه الأعمال عبقرية تشيكوف الأدبية الفذة، وحسه المرهف في تصوير شخصيات نموذجية حية تختزل بفنية عالية الطبائع الاجتماعية السائدة، فبعض أبطاله يستكينون لشروط الحياة الرمادية المتكلسة، ويقتصر كل طموحهم على تحقيق رغباتهم التافهة، في حين تطرأ على حياة أبطال آخرين أحداث معينة مادية أو معنوية تدفعهم إلى التفكير في معنى وجودهم ودورهم في الحياة، وينتهون إلى الاقتناع بضرورة الانعتاق من إسار العادة التي تخدر ضمائرهم ومشاعرهم، ومحاولة تغيير نمط حياتهم على نحو يمكنهم من تحقيق إنسانيتهم.

ويتسم أسلوب تشيكوف بالإيجاز والتكثيف والرشاقة، ويعدّ من أجمل أساليب الكتابة في اللغة الروسية، فقد تخلّى الكاتب في مرحلة النضج عن اللجوء إلى التوتر الخارجي والإثارة الحادّة في الحدث، وصار يعتمد على ديناميكية الحبكة الداخلية التي توحي للقارئ بأن ثمة نصاً آخر يختفي خلف النص المكتوب، وعليه هو أن ينفذ إليه ويقرأ ما بين السطور. (3)

أما في مسرحياته، فقد مزج تشيكوف بين العناصر الهزلية والمأساوية، واستخدم الرمز وعناصر الطبيعة لتقوية التوتر الدرامي غير المباشر الذي يتنامى تدريجياً حتى يصل إلى القمة في الفصل الثالث غالباً، ثم يعود إلى الانخفاض التدريجي. وعالج في مسرحياته الرئيسة مسائل الحب والفن والعمل، والتوق إلى الخلاص من رتوب الحياة اليومية الضحلة، والانطلاق نحو آفاق العمل الخلاق والعلاقات الإنسانية الصادقة. وصوّر في مسرحيته «بستان الكرز» انهيار نمط الحياة القديم الذي فات أوانه، وانبلاج فجر حياة جديدة.
وتتسم هذه المسرحيات هي التخلي عن تقسيم الشخصيات إلى أخيار وأشرار، وتفادي أحادية الجانب في تصوير الطبائع، والانصراف عن الحبكة ذات العقدة المثيرة، والاستعاضة عنها بالحبكة الداخلية المرتبطة بالعالم النفسي للأبطال. ولا يقوم بناء المسرحية عند تشيكوف على أساس التصادمات المباشرة بين الشخصيات، بل على أساس نزاع داخلي عميق يُظهر علاقات الشخصيات بواقعهم، ويكشف عن نفسياتهم وطبائعهم.
والحدث الدرامي الحقيقي في هذه المسرحيات ليس الذي يجري على الخشبة، بقدر ما هو ذاك الذي يتولد في وعي المشاهِد الواقع تحت تأثير الجو الوجداني العام للمسرحية، وردود أفعال الشخصيات المتجلية في الانفعالات والحوارات التي تتخذ في كثير من الأحيان شكل "المناجاة الذاتية".

أصيب الكاتب فجأة باعتلال شديد في صحته، دفعه إلى مغادرة أجواء موسكو الباردة إلى أوكرانيا حيث عاش فترة من الزمن وحيدا في منزل مطل على بحر قزوين. ثم قام في عام 1890 برحلة شاقة بالقطار، وعن طريق عربة تجرها الخيول، ثم بالباخرة، إلى الشرق الأقصى، وتحديدا إلى جزيرة "سخالين" في شمال اليابان، وقضى هناك 3 أشهر بغرض الاستجمام، وتُعد رسائله التي كتبها خلال رحلته الممُتعة إلى "سخالين" من أفضل ما كتبه في حياته.
وفي مارس 1897، وبعد عودته إلى موسكو، تعرض تشيكوف لنزيف حاد في الرئتين وشخص زملاؤه من الأطباء حالته، فتبين لهم أنه مُصاب بمرض السل في الجزء العلوي من رئتيه، ما أدى إلى تغيير نمط حياته فيما بعد، حيث صار يفضل الحياة بشكل دائم في المناطق الدافئة، وتزوج من ممثلة مسرحية تُدعى "أولغا"، صارت رفيقة حياته حتى موته.

وبعد وفاة والده عام 1898، اشترى تشيكوف قطعة أرض في ضواحي مدينة "يالطا"، وبنى فيها فيلا، انتقل للعيش فيها مع والدته وشقيقته في العام التالي، واستقبل فيها ضيوفه من الأدباء مثل ليو تولستوي ومكسيم غوركي وغيرهما من  مشاهير العصر.
وفي عام 1900 انتُخب عضواً فخرياً في "أكاديمية العلوم الروسية"، أرفع مؤسسة من نوعها في البلاد آنذاك، ولكنه تخلّى عن هذا الشرف عام 1902 احتجاجاً على إلغاء انتخاب صديقه مكسيم غوركي عضواً فخرياً في الأكاديمية، بقرار من القيصر، بسبب ميول "غوركي" اليسارية المناهضة للحكم القيصري.

وظهر تشيكوف في زمن عصيب في تاريخ روسيا. فقد أطلق القيصر ألكساندر الثاني، في بداية حكمه، سلسلة من الإصلاحات فات أوانها منذ زمن طويل. وكان أهم هذه الإصلاحات تتمثل في الغاء نظام "العبودية"، لكنها لم تكن كافية لتعديل الأوضاع الظالمة في البلاد، وأدى التذمر الشعبي المتنامي حيال التطور البطيء بأكثر الثوريين الشباب الأشد راديكالية في روسيا الى اللجوء الى الإرهاب، ومن ثم اغتيل الكساندر الثاني، ودخلت روسيا في نفق مظلم وصلت إلى نهايته باندلاع "الثورة البلشفية" عام 1917، التي تنبأ بها الكاتب في أعماله قبل وقوعها بـ20 عاما تقريبا. (4)

واختلف تشيكوف مع صديقه تولستوي، حيث أعرب في رسائله له عن اقتناعه بعدم جدوى أفكار تولستوي المتمثلة في الإحجام عن "مقاومة الشر بالقوة"، وفي التنافر بين الحب الجسدي والمبادئ الدينية المثالية، وتتكرر على لسان أبطاله عبارات التفاؤل بالمستقبل والإيمان بحتمية التقدم نحو حياة أفضل.

وتدهورت صحة الكاتب يوما بعد يوم، جراء مرض السل، وتم نقله بشكل عاجل إلى مصحة للأمراض الصدرية في ألمانيا، حيث مكث هناك للعلاج نحو سنة. وفي أحد أيام عام 1908، توقف قبله تماما عن العمل، بعد أن أصيب بأزمة تنفسية حادة قُضي على إثرها، ونُقل جثمانه من ألمانيا إلى موسكو عبر السكك الحديدية في عربة مُبرّدة، حيث دُفن بجوار والده في مقبرة "نوفوديفيتشي" بالعاصمة الروسية. (5)

المصادر: 
(1)        موقع "ويكيبيديا"
(2)       موقع "المعرفة"
(3)       يفجيني بلينيسكي "أعلام الأدب الروسي"-
ترجمة د. عبدالسلام لملوم- الناشر "دار النهضة العربية" القاهرة 1956.
(4)      موقع "الحوار المتمدن"
(5)      "ويكيبيديا"- مصدر سابق.


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

Back to top button