أجاثا كريستي.. مؤلفة قصص الجريمة الأشهر في العالم
الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي، مؤلفة قصص الجريمة الأشهر في العالم، وسيدة الرواية البوليسية، واحدة من أغرب الشخصيات في تاريخ الأدب العالمي، فرغم شهرتها كأديبة في مجال الرعب والجريمة والإثارة، إلا أنها كانت على المستوى الشخصي سيدة وديعة، تخاف من "فأر صغير"!حققت كريستي شهرة عالمية واسعة في مجال الأدب البوليسي، وكان لها نشاط بحثي في مجال التنقيب عن الآثار في العراق، استمر سنوات طويلة، إلا أنها لم تشتهر سوى بكونها مؤلفة لأدب الجريمة على نطاق عالمي.
وُلدت أجاثا كريستي عام 1890 في بلدة "توركوي" جنوب إنجلترا، من أب أمريكي وأم بريطانية. وفي سيرتها الذاتية الصادرة بعد وفاتها وصفت الكاتبة طفولتها بأنها "سعيدة جدا"، وأنها كانت "شخصية قوية ومستقلة منذ سن مبكرة".
وعندما بلغت من العمر 11 عاماً توفي والدها، وبعد عام من وفاته، انتقلت إلى جنوب أفريقيا للعيش مع زوج والدتها الجديد. ومكثت هناك 3 أعوام، وشُغفت حينها بقراءة مغامرات المحقق "شارلوك هولمز" التي كتبها البريطاني السير آرثر كونان دويل.
أجاثا كريستي.. زيجة فاشلة
عن هذه المرحلة المبكرة من حياتها، تقول الأديبة: "يرجع الفضل في اتجاهي إلى التأليف القصصي لوالدتي، فقد كانت ذات شخصية ساحرة وتأثير قوي على من حولها، وكانت تعتقد اعتقاداً راسخاً أن أطفالها قادرين على فعل كل شيء. وذات يوم أصبت بنزلة برد شديدة ألزمتني الفراش لعدة أيام، فقالت لي: خير لك أن تقطعي الوقت بكتابة قصة قصيرة وأنت في فراشك. فقلت لها: ولكني لا أعرف. فردت أمي بحزم: لا تقولي لا أعرف. وحاولت بالفعل، فوجدت متعة كبيرة في المحاولة، وقضيت الأعوام التالية أكتب قصصاً مُقبضة للصدر، يموت معظم أبطالها في النهاية"!
تلقت الطفلة "أجاثا" تعليمها في البيت مثل فتيات كثيرات من العائلات الموسرة، وحسب التقاليد السائدة آنذاك، ثم سافرت إلى فرنسا للالتحاق بمدرسة أولية في باريس، وهناك جمعت بين الدراسة وتعلم الموسيقى والتدريب عليها وبين زيارة المتاحف والمعارض.
وحينما عادت إلى إنجلترا، وكانت في العشرينيات من عمرها، تقدّم لخطبتها طيار عسكري يدعى إيريك كريستي، فتزوجته عام 1914 وأخذت منه لقبها "كريستي" الذي لازمها طوال حياتها.
وأثناء تطوعها كممرضة في مستشفى تابع للصليب الأحمر إبان الحرب العالمية الأولى، خطر لها أن تكتب "رواية جرائم"، ففعلت، لكن معظم الناشرين الإنجليز رفضوا نشر هذه الرواية، نظرا لقتامتها وأجوائها الرهيبة. وفي عام 1920، نشرت روايتها الأولى بعنوان "قضية غامضة" مسلسلة في صحيفة يومية، فبدأت مسيرتها الأدبية الناجحة في عالم الروايات البوليسية.
وتعرض زواجها للفشل، رغم أنها أنجبت طفلة أسمتها "روزلاند" من زوجها الأول، فتطلقت منه، بسبب افتقادها "الصحبة المشتركة" حسب تعبيرها، وتلك كانت "قيمة أساسية" في حياتها ظلت تؤكد عليها دائما.
وتقول الصحافية البريطانية جانيت مورغان كاتبة سيرة أجاثا كريستي إنها "كانت سيدة ريفية بكل ما في الكلمة، ليس لأنها ولدت وترعرعت في ريف بريطانيا الجنوبي، بل لأن مظهرها وعاداتها كانت مطابقة لحياة وعادات الحقبة التي عاشتها تماماً، ولم تمر في حياتها بأحداث دراماتيكية أو تسعى أبدا وراء المغامرة، غير أنها رغم كل ما كتبته من روايات بوليسية مرعبة كانت تخاف من أي فأر صغير"!
أجاثا كريستي وسحر الشرق
في عام 1930 تزوجت أجاثا كريستي مرة أخرى من عالم آثار يدعى ماكس مالوان، وكان يصغرها بـ13 عاما، وقد التقت به مصادفة في إحدى سفراتها إلى الشرق الأوسط، وعاشت معه حياة سعيدة مستقرة في سوريا والعراق حيث كان يقوم بأبحاثه الأثرية، وكانت الكاتبة تتندر بأن "سر نجاح زواجها من عالم الآثار الذي يصغرها بأعوام هو أنه كان ينظر إليها باعتبارها تحفة أثرية"!
وأتاح لها زواجها من الأثري "مالوان" أن تزور معظم بلاد الشرق، فتجولت في العراق ومصر وبلاد فارس، ووفَّر لها هذا التجوال فرصاً لكتابة أجمل رواياتها وقصصها المليئة بالأسرار، والمفعمة بالغموض، المعتمدة على مواقع الحدث في بلاد الشرق الساحرة وعلى خيال الكاتبة الجامح معا، ولغتها المتدفقة السيّالة وقدرتها الفريدة على ابتكار الشخصيات الغامضة والمثيرة. وهيأ لها الاستقرار العائلي الذي أتاحه لها زواجها من "مالوان" فرص الكتابة والإنتاج الأدبي حتَّى وهي ترافق زوجها في إقامته بالمواقع الأثرية.
أجاثا كريستي في معسكرات التنقيب
وعاشت "أجاثا" مع زوجها والعاملين معه في معسكرات التنقيب أو في خيام المواقع الخالية من أغلب وسائل الراحة. ومع ذلك ساهمت بشكل فعَّال في أعمال الفريق، وكانت عاملاً مساعداً في إنجاح عمليات الكشف عن كنوز حضارة وادي الرافدين. وفي مقدمة كتابه "نمرود وأطلالها"، وقد كتب مالوان عن تقييمه لدور زوجته في أعمال التنقيب، فقد كانت تبهرها أعمال الرسم على قطع السيراميك المكتشفة، كما كانت تهز مشاعرها القطع الذهبية التي يعثر عليها.وذكرت الكاتبة فيما بعد إن زوجها قال لها ذات مرة: "من المؤسف أنك لم تأخذي علم الآثار مهنة لك، لأنك المرأة الوحيدة تقريباً في كل بريطانيا التي تعرف هذا القدر عن صناعة الخزف القديمة"، وكانت مشاركتها الفعالة في أعمال التنقيب تتم على نفقتها الخاصة.
وفي سيرتها بعنوان "ذكريات عن الأيام السعيدة"، تقول الكاتبة عن المنطقة المحيطة بمدينة "نمرود" العراقية: "هنا تتفتح آلاف الزهور، منظر أخاّذ بما يحيط بنا من سلسلة جبال سنجار، إنه عالم بسيط يلفه الهدوء والسلام، تحيطني فيه موجة من السعادة. وأنا أحب هذا المكان من العالم بعمق، والحياة هنا ترضيني، أنا أحب هذا البلد الفريد والخصب وأحب شعبه الذي يفهم كيف يفرح ويتمتع بالحياة".
وقضت "أجاثا" سنوات عدة في الشرق، وعملت في الكثير من مواقع البحث عن الآثار، وتحولت من سائحة عادية لتصبح مهتمة بشؤون الآثار. وقد سُعدت في "حياتها الشرقية" أثناء سفراتها بين مدن العراق وسورية، وسجّلت خلال تلك الحقبة مشاعرها بما التقطته من صور فوتوغرافية لمواقع العمل والناس المحيطين بها، ويمكن اعتبار أرشيفها الشخصي من صور وأفلام حول تلك الحقبة الزمنية من تاريخ العراق أرشيفاً غنياً لا يستغني عنه الباحث الأثري.
ويقول "مالوان" في مذكراته عن طقوس زوجته في الكتابة "شيدنا لأجاثا حجرة صغيرة في نهاية البيت المقام في مدينة نينوى، شمال العراق، كانت تجلس فيها من الصباح وتكتب رواياتها بسرعة وتطبعها بالآلة الكاتبة مباشرة، وقد ألّفت ما يزيد على 6 روايات بهذه الطريقة، موسماً بعد آخر، كان بطلها هو المفتش الشهير هيركل بوراو، البلجيكي الذي صار أهم شخصية في الأدب البوليسي العالمي".
وتجولت "أجاثا" مع زوجها الأثري في سوريا ومصر والأردن وفلسطين وإيران، وكان لها في كل موقع أثري رواية أو قصة، فروايتها "لؤلؤة الشمس" تعد تسجيلاً لزيارة قامت بها مع زوجها إلى منطقة "البتراء" الأردنية. أمَا في رواية "موعد مع الموت" فتصف روعة بناء المسجد الأقصى وعظمة قبته المُشيدة على صخرة مرتفعة وجمال نقوشه، كما زارت الكاتبة مصر درست حضارتها وتاريخها، وهناك كتبت رواية المعروفة "موت على النيل" التي تحولت إلى مسرحية بعنوان "جريمة على النيل"، كما كتبت مسرحية عن الفرعون المصري "إخناتون" خلال زياتها إلى مدينة "الأقصر" الأثرية جنوب مصر، واستعانت بخبرة عدد من علماء الآثار في رسم شخوص هذه المسرحية.
سر الاختفاء الغامض
في عام 1926، وبعد عودتها إلى بريطانيا، اختفت أجاثا كريستي تماما لمدة 11 يوما، اختفاء مريبا، وشارك الشعب البريطاني كله في البحث عنها، سواء بالتفتيش عنها مباشرة أو بمتابعة أخبارها، ولم يعرف أحد سر هذا الاختفاء المتعمد، لكن التكهنات عزت ذلك إلى خوفها من فقدان والدتها التي كانت مريضة بشدة آنذاك.
وتمثل هذه الأيام لغزاً في حياة الكاتبة لم تكشف عن تفاصيله لأحد، ولولا الحملة الشعبية المكثفة التي تم إعدادها للبحث عنها، والتي شارك فيها 1000 شرطي و15 ألف متطوع من بينهم الكاتب آرثر كونان دويل نفسه.
وطوال هذه الـ 11 يومًا، تصاعد القلق والتوتر بشكل مُريب، تماما كما هو الحال في قصصها، وبقي مكان وجودها مجهولاً. وانشغل قراء الصحف بمتابعة تفاصيل الاختفاء وخشوا من الأسوأ، واعتقد البعض أنها دعاية مقصودة لرواياتها، ثم تبين أن السبب غير ذلك تماما.
صدمة عاطفية كبيرة
وأرجعت "مورغان"، كاتبة سيرتها الذاتية، السبب في اختفائها هذا إلى "صدمة عاطفية كبيرة" كانت الثانية في حياتها، بعد صدمتها الأولى نتيجة فشل زواجها من "كريستي"، ويقال إنها فقدت الذاكرة، حتى أنها تركت سيارتها على الطريق وذهبت إلى أحد الفنادق، وكانت تسأل الناس "من أكون؟"، إلى أن تم العثور عليها في نهاية الأمر في أحد فنادق منطقة "يوركشاير".
وعلى الرغم من كل الظروف التي مرت بها، لم تتوقف أجاثا كريستي عن كتابة الروايات منذ أن بدأت مسيرتها الأدبية، حيث استمرت في نشر أعمالها عاماً بعد عام، إلى جانب كتابتها لقصص قصيرة ولمسرحيات ناجحة، ومنها مسرحية "مصيدة الفئران" التي لا تزال تعرض إلى اليوم في المسارح البريطانية منذ انطلاق عروضها في خمسينيات القرن الماضي؛ كأطول فترة عرض في تاريخ المسرح العالمي.
واشتهرت الكاتبة بكونها أكثر الروائيات العالميات غزارة في مجال الرواية البوليسية الغامضة، لكنها كتبت أيضا روايات رومانسية لم تلق نجاحا كبيرا، وتُرجمت أعمالها إلى 103 لغات حول العالم. ومن أهم هذه الأعمال: "القضية الغامضة في ستايلز، الأربعة الكبار، لغز القطار الأزرق، شركاء في الجريمة، مأساة من ثلاثة فصول، الموت بين السحاب، جريمة على النيل، خداع المرايا، الأفيال تستطيع أن تتذكر، ليل لا ينتهي، الساعات، والمرآة المتصدعة".
وتوفيت أجاثا كريستى في 12 يناير عام 1976 إثر وعكة صحية ألّمت بها، أصيبت على إثرها بجلطة دماغية، عن عمر 85 عاماً. ورغم مرور 40 سنة على رحيلها، إلا أن اسمها لايزال حاضراً بقوة في المشهد الروائي العالمي، بوصفها سيدة الروايات البوليسية ذات الحبكات المثيرة والمشوقة.