لم أقابله شخصياً حتى اليوم، ولم يكن بيني وبينه أي صلة، سوى مكاتبات علمية أو أدبية، وفي وقت متأخر، ولم تربطني به رابطة سوى هذه الرابطة الفكرية، ومعلوم أن رابطة الفكر الخالص تُعَدُ من أمتن الروابط، سواء اختلفت الآراء أو اتفقت، فالهدف هو الوصول إلى الحقيقة.
ولكني - ومن على بعد - سمعت بأخباره تهب عليَ كأفواج النسيم تأتي من حديقة غنّاء امتصت عطرها ونثرته أريجا عن صفات إنسان نبيل، وشاعر بليغ، ومؤرخ موسوعي، وسياسي محنك. ومضت الأيام، وأنا لا أسمع عنه إلّا ثناء كنشر المندل العطر، حتى جاء يوم، تبادلنا فيه الرسائل، وتهادينا المؤلفات، فزادت هذه المؤلفات النثرية والشعرية والتاريخية من أواصر التلاقي الفكري على بعد الديار.
وقد تكرم فأهدى "مركز التراث والبحوث اليمني" - الذي لي شرف رئاسته – مؤلفاته المتنوعة الباقات، وأنا أهديت "مؤسسة الأبداع الثقافية والآداب والفنون"- التي يرأسها- كل كتب المركز بما فيها كتبي، ولكن فضله زاد فأرسل إلي في البريد، وعلى حسابه الخاص كتابه الكبير "موسوعة أعلام اليمن ومؤلفيه" فكانت هذه الموسوعة من أكرم الهدايا إن لم تكن أكرمها، وهكذا تم فيما بيننا جسر لقاء فكري لم ينقطع، عليه لقائتناـ ومنه رواحنا وإيابنا.
(2)
وبالرغم من انه شغل مناصب سياسية، وللسياسة جراح، وأنه كان منتمياً حزبياً، وللحزبية انغلاق، إلا أنه -ومن خلال ما قرأت من نثره، وما شنف أذناي سحر شعره، وما سمعت عن سلوكه النبيل- كان قد تمكن من الإنفلات من ضيق الأفق، إلى آفاق واسعات الرحاب، وحلّق بأجنحة طوال في سماء مفتوحة كما تحلق كرام الطيور، فتغنى بشعر عذب، له صفاء الشعاع، وعمق المعنى، ونبل المقصد، كما كانت مؤلفاته لسان صدق حسب ما توصل إليه جهده، وهو جهد واسع، ومن يقرأ كتابه الكبير "موسوعة أعلام اليمن" يعرف ما أقصد وكيف تعالى على الأهواء السياسية والعنصرية والمذهبية ورأى الناس بعين واحدة.
(3)
وللأستاذ الدكتور حتى الآن 19 كتاباً ما بين تحقيق وتأليف وشعر، وكانت شاعريته -كما أعتقد- أن يبدأ تحقيقاته بديوان شاعر اليمن الكبير "القاسم بن علي بن هتيمل" المسمى "درر النحور" وبه نال الدكتوراه عام 1414هـ/1993م في ثلاثة مجلدات:
درسه فأبدع، وحققه تحقيقاً دقيقاً استوجب الثناء والتقدير من الدكتور الكبير المرحوم "شوقي ضيف" (الحجة 1426 هـ/مارس 2005م) وشهد على ما بذله من جهد مره في تحقيقه فقال في تقديمه له أنه (شق على نفسه في التحقيق إذ أثبت في الهوامش الأغلاط التي في النسخ جميعاً، وأنا أنوه بالجهد الشاق الذي بذله الدكتور الشميري في الديوان)[1] ولعله بحسب معلوماتي أنه -أي الدكتور الشميري"- كان أول من ارتاد هذه الطريق الوعرة واجتازها بنجاح.
كما أثنى على جهده هذا الأستاذ الدكتور "علي عشري زايد"[2] (25 صفر 1424هـ/ 27 أبريل 2003م) ثم توال نبات مؤلفاته كما تنبت الزهور في حديقة ربيع وارف.
وانظر دواوينه الشعرية وتاريخ صدوها وعدد طبعاتها وكذلك مؤلفاته الثقافية والتاريخية ونماذج من شعره وما كتب عنه وما ناله من أوسمة ودروع تكريم في ترجمته لنفسه في المجلد التاسع من الموسوعة "أعلام اليمن" صفحات 320 -331.
ومن خلال تلك الترجمة يطل القارئ على رجل يضرب بجناحين في آفاق سياسية، وشعرية، وأدبية، وتاريخية، الخ.
ومن الخير أيضاً أن يلم القارئ بأطوار حياته منذ أن ولد عام 1375هـ/1956م ليعرف كيف بنى نفسه مؤرخاً وشاعراً وادبياً وسياسيا.
بدأ تأليفه الأول "خواطر وذكريات" عام1411/1991م كان عمره 35 عاماً - ثم تدفقت كتبه التسعة عشر المتنوعة وكان آخرها كتابه الكبير "موسوعة أعلام اليمن" عام1439هـ/ 2018 م وكان قد بلغ من العمر 59 عاماً قضى معظمها في عالم الكتب المتنوعة.
(4)
ولا بأس من إعادة النظر في تتبع مراحل حياته من أجل اكتمال الصورة الموجزة. ومن خلال ترجمته الموجزة أجد أنه أخذ "الليسانس" في اللغة العربية من "كلية اللغة العربية" في مدينة "أبها" عام 1402هـ/1983م وفي عام 1409هـ/ 1984 م حصل على "الدبلوم العالي" من "المعهد العلمي" للإدارة بـ "صنعاء"، وفي عام 1410هـ / 1990 م حصل على "الماجستير" من "كلية الدراسات الشرقية" بـ "أكسفورد"، وحصل على الدكتوراه من جامعة عين شمس عام 1414ه/ 1993م.
وعن نشاطه العملي أذكر منه أنه عندما تولى "ناحية مقبنة" قام بإنشاء ستين "مدرسة"، وأكثر من عشرة معاهد علمية، وفي عام 1413هـ/1993م أسس "مؤسسة الإبداع للثقافة والآداب والفنون" في "صنعاء" وأسس مكتبتها العامة التي تضم عشرات آلاف الكتب. وفي اثناء عمله سفيراً "لليمن" في مصر ومندوباً لها لدى "جامعة الدول العربية" أسس "منتدى المثقف العربي" وأصدر مجلة "المثقف العربي" الشهرية، ثم مجلة "تواصل" الفصلية، ورأس تحريرهما، وعقد أكثر من ستين ملتقى ثقافياً وإبداعياً في "منتدى المثقف".
وفي شهر ربيع الثاني 1432 هـ/ مارس2011م استقال من عمله السياسي وانصرف كلياً إلى البحوث والتدريس في عدد من الجامعات منها "جامعة الأزهر الشريف" و"جامعة القاهرة" و"جامعة المنصورة" و "جامعة الإسكندرية" و "كلية دار العلوم" و "جامعة المنيا" و "جامعة أسيوط" و"معهد الدراسات العربية" وهو إلى جانب ذلك كله عضو ومؤسس في أكثر من عشرين مؤسسة ومنتدى وجمعيات ثقافية في "الوطن العربي" وخارجه، في أكثر ثمانين دولة حول العالم.
هل ملأ هذا النشاط الحافل حياة الأستاذ الدكتور الشميري؟
يبدو من خلال استعراض حياته أنه لم يتوقف عندما ذكرت إذ قرات تاريخه، أكثر من غيرها يبدو من خلالها أن له نشاطان سياسي واقتصادي فأما النشاط السياسي فبعد أن شب عن الطوق وتلقى دروسه العلمية في اليمن على يد علماءها وانتخب أميناً عاماً لمجلس الحديدة البلدي عام 1398ه/1978م، ثم التحق بالسلك العسكري وتدرج في رتبه العسكرية وخاض عدة معارك، ثم عين مديراً وقائداً عسكرياً لـ "ناحية مقبنة" وبعد التحاقه بالمعهد العالي عام 1404هـ - 1984 م عين مديراً عاماً لـ "مديرية شرعب" وبعد نيله درجة الماجستير انتخب عضواً في "مجلس الشورى، وفي عام 1413ه/1993م انتخب عضواً عن دائرة "شمير" وفي عام 1416هـ/1995م عين محافظاً لـ "محافظة مارب" (مأرب") وفي عام 1421ه/2000م عين سفيراً بـ "وزارة الخارجية اليمنية" ثم مندوباً لدن جامعة الدول العربية عام 1421هـ/2001م ثم سفيراً لدن "جمهورية مصر العربية". ولم يكتف بذلك النشاط، بل وجهه شطر الاقتصاد، فأسس عدة شركات تجارية اعتمد عليها في نشر رسالته العلمية[3].
وتقديراً لجهوده العلمية فقد كًتبت عنه عشرات من "المقالات" و"الكتب" و "الرسائل العلمية" كما حصل على ""أوسمة" و "دروع" من "جامعات" و "مؤسسات" متعددة تشهد أنه كان محظوظاً، لم تدركه "حرفة الأدب" كما يقال، فقد كان في رغد من العيش والمكانة الاجتماعية. بعد هذا الاستعراض الموجز يظهر أمامنا رجل متعدد المواهب ينجح في كل مجال قام به وفيه.
(6)
لم يقتنع الدكتور "عبد الولي الشميري" بما قام به من جهد-وما قام به كثير نافع- بل استمر في نشاطه العلمي، فقدم "لليمن" خدمة كبرى لا تضاهى هي كتابه "موسوعة أعلام اليمن ومؤلفيه" في عشرين مجلداً من الحجم الكبير.
وهو جهد لا يقوم به إلا ذو بسطة في الفكر، وسعة في المال، ورغبة في التنوير، فليس قليلا ما قام به في هذا الفن التاريخي: فن "التراجم" وهو كتاب أستطيع أن أقول فيه أن لم يسبقه أحد في هذا المضمار، وقد لا يلحق به على المدى المنظور.
وهو قد استوفى من تراجم الأعلام بما يشبع الغلة، ويروي الظمأ، وكشف عن تاريخ تراجم شخصيات من ذكر وأنثى من قبل الإسلام كانت ضائعة بين الرمال، حتى جاءت "موسوعة أعلام اليمن ومؤلفيه" فأزالت تراباً وكشفت عن كنوزاً، لم تأت على ذكرها كتب التراجم السابقة التي اقتصرت تراجمها على رجال مذهب ما، أو منطقة ما، أو تاريخ محدد، ولكل منها فضل ولا شك، إذ سد كل مؤلف منها ثغرة. أما هذه الموسوعة فهي أشملهن على الإطلاق، إذ أحاطت بكل اعلام اليمن المؤلفين، وغير المؤلفين بالنسبة لمن ترجم لهم في التاريخ الإسلامي استخرجه من نقش حجر مقطوع، أو نص مكتمل.
مع العلم أنه لم يعثر لأولئك الأقدمين على" رسائل مكتوبة في صحاف
منشورة، ولكن في سلسلة من النقوش في صخور معظمها
مقطع الأوصال وقليل منها مكتمل، ومع إصراره القوي مضى يتتبع آثارهم في الصخور
المزبورة، والأحجار المنقوشة.
(7)
وكما علمتُ فإن الأستاذ الدكتور لم يقتنع بمن قد ترجم
لهم، وأنه مازال يسعى إلى إضافة المزيد من التراجم في طبعته القادمة، كأنه لم يرتو
مما قد استقى، ولم يشبع مما قد عرض، ويبدو أن لديه نهم لا يرتوي من علم ولا يشبع
من معرفة.
ولم يقنع بذكر تسجيل تاريخ واحد، كما جرى عليه المترجمون
من مسلمين يؤرخون بالهجري ومستشرقين يؤرخون بالميلادي، بل جمع بين التاريخين معا
ولو أحصينا من ترجم لهم عرفنا الجهد الذي بذله.
كما لم يقنع بإخراجه بلون واحد، ولكنه أخرجه إخراجاً
جذاباً يسهل للقارئ قراءته بسهولة ويسر، فهو يبدأ باسم المترجم له أو المترجمة لها
باللون الأحمر ثم يذكر باللون الأسود القرن الذي ولد فيه، ثم يعود إلى اللون
الأحمر فيذكر اسم المحافظة، والمديرية والقرية والصفات والتخصصات، ثم بعد ذلك يسهب
حينا، ويختصر حيناً آخر على حسب المصادر والمراجع التي اعتمد عليها في الترجمة.
وإنه لجهد مرهق حقاً.
كما لم يقنع بالفهرسة المعتادة، كما يعمل المفهرسون من
ذكر الاسم ورقم الجزء والصفحة، بل ذكر الإسم كاملاً مع ذكر القرن والجزء والصفحة،
ووضع رقم (1) امام الإسم للرجل، ورقم (2) للنساءـ واستغرق هذا الجهد أربعة أجزاء
كبار من الجزء السادس عشر إلى العشرين منه.
ألا يستحق هذا الجهد العظيم إكبار من قام وجهد نفسه في
إقامة هذا الصرح العلمي الشامخ. ولست وحدي من قدر هذا الجهد فقد سبقني اليه
الدكتور المرحوم "شوقي ضيف" عندما قدم تحقيق الدكتور
"الشميري" لديوان الشاعر الكبير في ثلاثة مجلدات كبار، فقال (شق على
نفسه في التحقيق إذ أثبت في الهوامش الأغلاط التي في النسخ جميعاً، وانا أنوه
بالجهد الشاق الذي بذله الدكتور "الشميري" في الديوان)[4] وما فعله في
ديوان "درر النحور" فعله بجهد أكبر في "موسوعة أعلام اليمن"
(8)
ولابد
لي هنا أن اذكر أن المؤرخين-قديماً وحديثاً- قد أعجبوا بكتاب المؤرخ الكبير "خليل الدين
الصفدي" "الوافي بالوفيات" وحق لهم أن يعجبوا وأن يفتخروا بتراجمه
الواسعة التي بلغت (14000) للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وفي الزمن الحاضر تبارى
المؤرخون على تحقيقه ونشره، وتلقاه الناس بكل ترحيب، تقديراً منهم لجهده الفذ الذي
لم يؤلف مثله في البلاد حتى ايامه رحمه الله.
فإذا نظرنا إلى ذلك الجهد العظيم وإلى ذلك المؤلف الجليل وإلى التسعة والعشرين مجلداً التي احتوت على تراجم لرجال من مشارق الأرض ومغاربها، ثم إذا أرجعنا البصر كرتين فإن البصر ينقلب إلينا وهو مزده بما رأى، قرير العين بما شاهد بما جمعه الأستاذ الدكتور "عبد الولي الشميري" من تراجم بلغت (12002) من بلد صغير.
قد يقال إن الزمن قد ضاعف اعداده، وذلك أمر صحيح، لكن ذلك
العدد وهذا العدد لا ينظر إليه بحسب الزمان، ولكن بحسب الجهد المبذول وهو جهد
يستحق التقدير ويستحق الأعجاب ويستحق الثناء الوافر، والشكر العاطر لمؤلفه القدير.
(9)
وأخيرا أنبه أنه من الظلم أن يخفي الإنسان إعجابه بأي مؤلف أو أي كتاب خوفاً من أن يُتهم بالوقوع تحت عاطفة صداقة، فيما قاله، أو تحت محاباة أخوة، وموقفي من هذا الموضوع موقف المرحوم "طه حسين" (2 شوال1393هـ/28 أكتوبر 1973م) عندما قدم لكتاب صديقه المرحوم الدكتور أحمد امين " ضحى الإسلام" فقال:
( لست أريد أن أخون صديقي "أحمد أمين" بالإسراف في الثناء عليه، ولا أن أخونه بالغض منه والتقصير في ذاته وإنما أن أنسى صداقته وأهمل ولو لحظة قصيرة ما بيني وبينه من مودة كلها صفو وإخاء استطعنا أن نجعله فوق ما يتنافس الناس فيه من المنافع وأغراض الحياة، إنما أريد أن أنصفه وأشهد لقد فكرت وقدرت وجهدت نفسي في أن أجد شيئاً من العيب ذي الخطر أصف به هذا الكتاب الذي أقدمه إلى القراء فلم أجد ولم أوفق من ذلك إلى قليل ولا كثير. وليس ذنبي أن أحمد أمين قصد إلى عمله في جد وأمانة وصدق وقدرة غريبة على احتمال المشقة والعناء والتجرد من العواطف الخاصة والأهواء التي تعبث بالنفوس.
نعم وليس ذنبي أن أحمد أمين قد استقصى فأحسن الاستقصاء وقرأ فأجاد القراءة وفهم فأتقن الفهم واستنبط فوُفق إلى الصواب، ليس من ذنبي هذا ولا ذاك وليس من ذنبي أن أحمد أمين بعد هذا كله وبفضل هذا كله قد فتح في درس الأدب العربي باباً وقف العلماء والأدباء أمامه طوال هذا العصر الحديث يدنون منه ثم يرتدون عنه أو يطرقونه فلا يُفتح لهم ووفق هو إلى أن يفتحه على مصراعيه ويظهر الناس على ما وراءه من حقائق ناصعة يبتهج لها عقل الباحث والعالم والأديب)[5].
والله
الموفق إلى سواء السبيل
زيد بن علي الوزير
رئيس مركز التراث والبحوث اليمني
رئيس منتدى اليمنيات، رئيس تحرير مجلة المسار
الثلاثاء 16محرم1447هـ / 22 يوليو 2025م
مدينة فينّا بولاية فرجينيا الأمريكية
1) الشميري، ديوان ابن هتيمل درر النحور، تحقيق ودراسة
الدكتور عبد الولي الشميري اليمني، الطبعة الأولى1997م ص 8.
2) الشميري، ديوان ابن هتيمل درر النحور، تحقيق ودراسة
الدكتور عبد الولي الشميري اليمني، الطبعة الأولى1997م ص 8.
3) انظر ترجمته الكاملة في موسوعة أعلام اليمن ومؤلفيها، ج
9 صص320-331.
4) عبد الولي
الشميري اليمني، ديوان ابن هتيمل، درر النحور، الطبعة الأولى1997م ص 8.
5) مقدمة طه حسين لكتاب ضحى الإسلام.