كان
الشعر وما زال هو اللحن الذائع الصدى، والجمال القولى الموزون الأخاذ، لا سيما إذا
توافرت لدى الشاعر مقوماته العاصمة من وزن وبلاغة وجدَّة وتصوير وعمق وافتنان..
وسيظل
التاريخ يذكر بكل الفخار والإكبار ذلك الفيلق الشعرى المنافح عن سيد الخلق صلى الله
عليه وسلم.. من أمثال كعب وحسان وابن رواحة، ومن رمى عن قوسهم أو شد من بأسهم.. فقالوا..
وروح القدس معهم.. وأبدعوا.. والشريعة قد وسعتهم ..
وعلى
الدرب سار المادحون المؤمنون.. فما من عصر أو مصر إلا وكان الشداة المحبون هم سادة
عصرهم ومصرهم بما أفاضوا من نضير الشعر والسحر،.. وصادق القول والفعل.. على حد قول
القائل:
إليك
وإلاَّ.. لا تشد الركائب
وعنك
وإلاَّ.. فالمحدث كاذب
وحبك
يا خير النبيين مذهبى
والناس
فيما يشتهون مذاهب
ومن
هنا فقد اكتسى الشعر العربى ثوبا وضيئا، واكتسب مسلكا مضيئا، بولوجه باب المدائح النبوية..
صلى الله على سيد الخلق وعلى آله وصحبه أجمعين.. حتى صارت نقيعا للأنفس، وربيعا للأرواح.
وأضحى
شعر المديح الخاص بسيد الخلق بابا من أرجى أبواب القرب والحب, مختلفا في ذلك عن كل
مديح لكل إنسان, صغر أم كبر, عز أم ذل, ملك أو امتلك ..
والشعراء
المادحون في ذلك المسرى على كامل الطمأنينة والأمل، من طيب ما يصنعون، انطلاقا من ثناء
الرسول صلى الله عليه وسلم على حسان بن ثابت، واستحبابه لما يصنع فيما رواه البراء
بن عازب: (اهجهم وروح القدس معك فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غبش الظلام)
"حديث صحيح".
وهم
بذلك يحسبون أنفسهم ممن مدحهم العلى القدير، واستثناهم من جملة الشعراء الذين يتبعهم
الغاوون.. فكانوا الفصيل القائم على أمر الله بالحق والناطق به بلسان الصدق: {إِلَّا
الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا
مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}
الشعراء 227.
ومن
هنا أينعت شجرة المديح النبوى وترعرعت وأفرعت وأثمرت ما بين قصيدة وقصيد، ومدونة وملحمة،
ومئوية وألفية.. وتشطير وتثليث, وتربيع وتخميس, وتسبيع وتثمين, وانهمرت الأمطار, وتفجرت
الأنهار في آداب اللغات المشاطئة للغة العربية.. لغة الكتاب المجيد، مثل الفارسية والتركية
والأوردية والأمهرية والسواحلية..
وقصر
شعراء كبار قولهم وإنشادهم على سيد الخلق وحبيب الحق, كالشاعر الشهيد يحيى الصرصرى
ت 656 هـ والمئات من أمثاله, حتى أضحى الأمر بابا للتبارى ومحرابا للقربات، بصورة تجل
عن الوصف وتستعصى على الإحصاء.. وقام الشعراء
المؤرخون بجمع بعض هذا العطاء في أسفار عظام، مثلما صنع محمد بن جابر الهوارى الأندلسى
698 – 780 هـ في ديوانه الضخم ( نفائس المنح وعرائس المدح ) والذى حققه الدكتور محمد
طيب خطاب الأستاذ بجامعة المختار بليبيا.
وممن
نظم السيرة النبوية شعرا أبو بكر عبد العزيز بن محمد بن سعيد الدميرى وكانت وفاته
663 هـ والذى تجاوز؛ في مدونته اثني عشر ألف بيت، تضمنتها فرائد القصائد وخرائد المدائح
الحصان الرزان .
وأبو
بكر بن إبراهيم المعروف بابن الشهيد المتوفى 793 هـ وقد سمى كتابه ( الفتح القريب في
سيرة الحبيب ) ويقع في بضع عشرة ألف بيت كذلك.
وكذلك
فعل الحسن بن عمر بن حبيب الحلبي المتوفي سنة٧٧٩ه، في عمله البديع (المقتفي في سيرة
المصطفى) مراوحاً بين النثر والشعر ،في بلاغة عذبة وإبداع فياض.
وما
من شاعر فخم في تاريخنا الأدبى الإسلامى، إلا وكانت له مع الرسول صلى الله عليه وسلم
مدحة أو أكثر.. حتى النصارى من كبار الشعراء قدموا الملاحم والمئويات التى رصعت سماء
أدبنا العربى الإسلامى بالنجوم الزواهر والقصائد السواحر.. من أمثال عبد الله يوركي
حلاق وحليم دموس وجورج جرداق ورشيد سليم الخورى وإلياس فرحات ومطران.. وغيرهم المئات
وقد انتهيت من دراسة ضخمة عن الرسول والرسالة في عيون الشعراء النصارى..
وفي
عصرنا الحاضر، لنا وقفة مع أولئك الكبار من الشعراء الذين نظموا السيرة بطولها وعرضها
في إطار شعرى نافذ.. من أمثال أحمد محرم في (الإلياذة الإسلامية) وعزيز أباظة في (السيرة
العطرة) ود. محمد عبد المنعم خفاجى في (ملحمة السيرة النبوية الخالدة) والعلامة محمد
أمين كتبى الحسينى ود. عبد الغفار هلال وغيرهم ..
ومنهم
من قصر شعره على المغازى، فيما جاوز آلاف الأبيات، مثلما صنع محمد بن محنض بابه الموريتانى
في (قرة العينين في غزوات سيد الكونين) التى قاربت سبعة آلاف بيت..
وعلى
الدرب الرضىّ خرجت المدائح، والمغازى، والمولديات، والهجريات، حتى بلغ التفنن بالشعراء
المحبين أن يقدموا السيرة في (قصيد سيمفونى) مثلما صنع الشاعر الكبير د. عبده بدوى
..
ولا يفوتنا أن قمما كبارا قامت كالشواهق الشوامخ
على هذا النسق الإبداعى الميمون.. كالشريف الرضى والبوصيرى وابن جابر الأندلسى والبارودى
وأحمد محرم وشوقى ومن حازاهم ووازاهم في المشارق والمغارب ..
وأما
عن شاعرنا المجيد المادح المؤمن(محمود فريج موسى عبده) المولود في 1/1 /1959 م بزاوية
فريج، بكوم حمادة، محافظة البحيرة ، فإنه يذكرنا بنظير له في السمت والأدب والخلق والأرب,
ذلكم هو الشاعر المؤمن الخطاط محمد محمد أبو قمر .. فقد برزا برابطة الأدب الإسلامى
العالمية بالقاهرة، كصوتين مؤمنين، وخطاطين ماهرين، وشاعرين مسلمين، ومختصين بعلوم
القرآن والتجويد، ومادحين كبيرين لسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم .. ولعلى أقف بشأن
شاعرنا محمود عبده، وقفات هامة، وأنا أقدم
في هذه الوجازة لهذا الديوان النفيس الذى سماه ( يا ولدى ) ألفية شعرية من نفحات السيرة
النبوية .. والذى تجاوز( 1700 ألفا وسبعمائة بيت ) من مقاطع شعرية متعددة، لكنها سبحت جميعا في بحر واحد ..
وامتازت بالسمات الٱتية:
{1}
لأول مرة أجد مدحة مطولة في السيرة الزكية من بحر المتدارك بما يدخل عليه من (حشو الخبن)
ليصبح ضابطه ( فَعِلُنْ فعلن فعلن فعل ) وهو بحر مرح راقص،
بما
ينبئ عن سعادة شاعرنا بما يسبح فيه من بحر، وما يمدح به من شعر.
{2}
اعتمد الشاعر في حكيه الشعرى، وشعره الحكائى، على مصدر صحيح للسيرة النبوية (نور اليقين
في سيرة سيد المرسلين) للشيخ محمد الخضرى بك، وهو الكتاب المعتمد في صحيح السيرة، والذى
تقرر تدريسه زمنا طويلا بالقسم العالى بالأزهر الشريف، وهذه محمدة تحسب للشاعر المبدع،
إذ نجا من كل وهن أو ضعف، أو دخيل أو موضوع، في السيرة النبوية المشرفة ..
{3}
ندر من التزم البحر الواحد في ملحمة السيرة كاملة .. ومن صنع ذلك رواها شعرا من الأراجيز
.. بيتا بيتا.. كل بيت من قافية مختلفة بمصراعين
.. أما شاعرنا فقد نوَّع القوافى بعد كل مشهد قصيدى كامل ، لكنه التزم السباحة التوقيعية
في ذلك البحرالمطرب٠٠٠ بحر (المتدارك)، والذى أراد أن يؤكد شدوه على أوتاره ،فلم يفته
أن يختم بقوله :
واغفــر يا رب لنا ظمها
فكثير
الذنـب يُسهِّده
وامنن بالعفــــو وبالحسني
فاختم
إن حـان توسده
وكأنه
يذكرنا .. بالحصرى القيروانى وشوقى ومن لف لفهم من المشارقة والمغاربة
{
4} أحسن شاعرنا الإحسان كله، إذ جعل ألفيته حوارية سيارة، بين الوالد /الشيخ٠٠٠٠ والإبن/السائل
٠٠ في صورة سؤال وجواب، وحتى لو استخدم في
ذلك المسلك عبارات تبدو تقليدية، فإنه ينفث فيها روحا جديدا، يحمل كل خصائصه المشعة
الفاعلة ،التى تجعل تربة الكلام كأنما اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج .. مثلا :
وهنا
قد أسأل يا شيخي
عما
أبغــــــي أتعلمه
العام
الأول هجـــــــريٌ
ما
فيه وكيف نُقَوِّمه
هل
قامت دولـــة إسلامٍ
بالشرع
وكيف ينظمــه
ماأول
شــــئ ٍأبــــــداه
وعلي
الأعمال يقدمـــه
فيقول
الشيخ أجــل ولدي
هــــــذا
ممــا أتفهمه
فحبيبك
قـــــام بأعمالٍ
جُلَّي
ما كلَّـــت معصمه
فبناء
المسجد تأسيس
لجمع
بـــروحٍ تلزمه
والمسجد
بيـت الله فما
رمــزٌ
للديـــن يساومه
وهكذا
في نسق تعليمى وسيط, يوازن بذكاء بين ضرورات الشعر وجماليات الإبداع وآفاق الرسالة..
وعلى
حد قول (بول فاليرى) هناك أبنية شعرية لا تتكلم.. وأبنية ناطقة تتكلم, وأبنية صداحة
تغنى..
{5}
تأتى هذه الملحمة الألفية الشريفة ، كالحجر الأعلى لهرم إبداعى مستدام للشاعر المسلم
( محمود عبده) بعد ثلاثة مدائح مطولة على نهج البردة، وديوان (سطور من سفر الهموم)
ليترضى الشاعر نفسه ورسوله وربه، في حالة من الاتساق الكامل مع رسالة الأدب الإسلامى
في التعبير الفنى الجميل، والإبداع الحضارى المنتمى، والوعى المؤسس لرسالة الإنسان
في الوجود، وما كان ذلك ليكون أبدا٠٠٠٠ إلا بمثل تلك الملحمة التى تقدم الشعر الفنى
الرائق، في إطار توحيدى بلا شرك, مؤمن بلا شك, متبع دون ترك ..
وصدق
العلى القدير .. إذ ينادينا من بعيد .. ويناجينا من قريب
{
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} الأحزاب ٢١.
تقبل
الله منكم شاعرنا الإسلامي السمح الخلوق
وصلي
الله وسلم على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم.
د. محمود خليل
القاهرة